شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

من الكتابة إلى أسئلة القراءة

انصبّ اهتمام الدراسات الأدبية والنقدية على النص، من جهة، والمؤلف من جهة ثانية، لكن التطور الذي شهدته العلوم الإنسانية بشتى فروعها دفع، بالضرورة، إلى إحداث تغيير جوهري في النظر إلى العملية الأدبية من زاوية أخرى تعيد الاعتبار إلى القارئ بوصفه ركنا أساسيا فاعلا ومشاركا لا يمكن تجاوزه. وبذلك أضحى من اللازم أن تشمل المقاربة الأدبية عملية القراءة بكلّ ما تقتضيه من استحداث مفاهيم جديدة من قبيل القارئ الضمني أو القارئ المثالي أو النموذجي…

إنّ هذا التصوّر الجديد لمفهوم القراءة عرف، إضافة إلى ذلك، توسّعا في مجال مقاربته، حيث تدرّج من مستوى القراءة الفعلية والمباشرة إلى مستوى التأويل، لكنّها، في العموم، ظلت تُعتبر دوما قراءة جيّدة تتمّ الإشادة بها والانتصار لها من جهة كونها تنضبط بالأساس إلى النصّ ومجمل القواعد وضوابط القراءة المرسومة له قبليا. الأمر الذي أدّى إلى الدعوة إلى قارئ آخر مختلف عن سابقه أكثر تحررا وإبداعية، أو كما يقول الكاتب والناقد الفرنسي ماكسيم ديكو «ذلك القارئ الذي لا يتبع، سواء في فكره أو انفعالاته وعواطفه، نفس المنطق الداخلي الحميم للنص، أو هو ذلك القارئ الذي لا يقرأ، عمليا، النص كما يريد النص ذلك. بمعنى أنّه، على الأغلب، لا يقرأ كلمة كلمة، وسطرا سطرا».

إعداد وتقديم: سعيد الباز

 

خليل صويلح.. ضدّ المكتبة

يخصص الروائي السوري خليل صويلح كتابا كاملا يعالج فيه القضايا المرتبطة بالكتابة وعلاقتها بالقراءة، ويخضعهما معا للنقد والتمحيص من موقع قارئ يحارب القراءة النمطية والشكلية، ويدعو القارئ إلى بناء مكتبته الخاصة وفق اختياراته الشخصية. إنّ النصوص التي يستدعيها الكاتب بوصفه قارئا ينحو باتّجاه بناء مكتبة تخالف المعتاد والمألوف، أو كما يقول: «بشكل ما، فإنّ هذه النصوص كُتِبت من موقع القارئ في المقام الأوّل، بمعنى أنّها لا تخلو من طيش ونزوات ومصادفات. أن تقع على كتاب في غير أوانه، وإذا به يقودك إلى ألفة غير مسبوقة، إلى اضطراب وريبة وشكوك، إلى ارتواء وشبع، كما لو أنك حيال وليمة دسمة من الكلمات والصور والنبوءات».

(94)                                                            

«إنّ التاريخ الحقيقي للقراءة هو تاريخ كلّ قارئ وحده مع القراءة، وإن تاريخ كاتب معيّن لا يبدأ من الكتاب الأوّل له وإنّما بقرائه ولم تأخّر وجودهم». هكذا يقول ألبرتو مانغويل في كتابه «تاريخ القراءة»، معوّلا على الشراكة بين المؤلف والقارئ، فالقراءة «طقس انبعاث لأنّ كلّ قارئ يضمن للكتاب قدرا من الخلود والبقاء». هذا خبير كتب من طراز خاص، بدأ حياته بمهنة استثنائية هي قراءة الكتب لخورخي بورخيس بعد أن أُصيب الأخير بالعمى، إلى أن أكمل رحلته منفردا، بين رفوف المكتبة، أو «مرآة الكون» كما يصفها.

بالنسبة لصاحب «المكتبة في الليل» و«يوميات القراءة»، تتحوّل العلاقة بالكتاب مع الوقت إلى ما يشبه «قلب السترة». ويعتبر أنّ كتبا معدودة تبقى بمثابة المأوى، والأمكنة الآمنة التي تركن إليها خلال رحلة عبور تلك الغابة المظلمة التي لا اسم لها. هكذا يقلل مانغويل من أهمية «قوائم الكتب الكلاسيكية»، أي الكتب المعترف بها رسميا، معلّقا أهمية قصوى على «نزوات القارئ». هذه النزوات التي قد تقوده إلى متعة القراءة عن طريق المصادفة، فيتحوّل الكتان خيوطا من ذهب. المخاطرة في اقتحام غابة الكتب المجهولة أمر ضروري في ظلّ «الميثولوجيا البائسة لعصرنا». الكتاب الذهبي، وفق منهج مانغويل، هو الذي يخبئ أرنبا في جيب صفحة ما، أو أقلّه عبارة سحرية واحدة، وبإمكان القارئ أن يشطب مقطعا كاملا، أو أن يضيف هوامش عليه، ليكون كتابه الشخصي، كأيّ كتاب، يستعصي على التصنيف.

حسب أنطونيو ماتشادو، يجب أن يحمل الكِتاب اسم المؤلف واسم القارئ معا، لأنّهما يتقاسمان أبوته !

(99)

لا أعلم لماذا اخترت رواية «بيدرو بارامو» للمكسيكي خوان رولفو كي أقرأها في الحافلة، خلال رحلة طويلة ومضجرة لزيارة قريتي بعد غياب؟ سأكتشف تقاطعات شخصية مذهلة مع أجواء هذه الرواية الملعونة، ذلك أنّ الراوي يذهب في زيارة إلى قريته بعد أن هجرها مدة ثلاثين عاما، ليجدها مجرّد أطلال، وأن بقايا البشر هناك يتواصلون مع الموتى كما لو أنّهم لم يغادروا المكان على الإطلاق. تقول إحداهن «أشمّ بأنّ أحدا في القرية مات»، فيجيبها الحوذي بأنّ زوجته ماتت اليوم. وتحسّ أخرى بأنّ طيف أبيها زارها ليلا، وحين تخبرها خادمتها بوفاة والدها هذا الصباح، تجيب ببساطة «لقد جاء لوداعي» ثم تكمل عملها كالمعتاد، فيما تتجول روح ميغيل في أنحاء القرية، وتقرع نافذة إحداهن، كما كان يفعل أثناء حياته ! امرأة أخرى تشكو لجارها المدفون إلى جانبها، ضيق حياتها في القبر، كما كانت في حياتها الأخرى. هذا ما استدعى ماريو بارغاس يوسا لأن يقول: «ليست قرية كائنات حية، وإنّما هي قرية أشباح». كتب خوان رولفو هذه الرواية فقط، من دون أن يكمل أيّة رواية أخرى، لكن هذه الرواية اليتيمة ستتناسل إلى سلالة كاملة من الأبناء، وستتحوّل إلى «ديناميت إبداعي»، أو منارة تهدي كتاب أمريكا اللاتينية إلى جهة الواقعية السحرية، وكيفية تهشيم بنى السرد التقليدية بمعول حاد. هنا نقع على لغة متخثّرة، و«شاعرية كونية فخمة ومبهمة»، وانضباط لغوي صارم، رواية معقّدة ومذهلة بآن واحد، كتبها موظف أرشيف يعمل في مكتب الهجرة «لأنّها الطريقة الوحيدة ليتركوا أحدنا هادئا» يقول.

قرأ ألفارو موتيس بيدرو رواية «بارامو» كما لو أنّه اكتشف لقية نادرة، فأهدى نسخة منها لصديقه غابرييل غارسيا ماركيز وقال له: «خذ اقرأها وتعلّم»، ولم يتم ماركيز ليلته حتّى قرأها مرتين، وسيعرف لاحقا أنّ هذه الرواية أحدثت لديه صدمة تماثل ما حدث له بعد قراءته رواية «المسخ» لفرانز كافكا، كما أوحت له بكتابة روايته «مائة عام من العزلة».

 

هنري ميلر.. الكتب في حياتي

كان الأمريكي هنري ميلر (1891-1980) Henry Miller كاتبا متمردا في أسلوب حياته ونمط كتاباته المغايرة والمرتبطة برؤيته الحادّة للوجود، بنى عالمه الروائي من خلال مزيج معقد من سيرته الذاتية ورؤاه الوجودية وتجاربه الخاصة في حياته الهامشية ومعاناته من الفقر وحياة التيه وتسكعه، خاصة في مقامه الباريسي، ورفقته مع كبار الكتاب والرسامين، ورفضه رفضا قاطعا لقيم المجتمع الأمريكي الذي بادله هو الآخر مشاعر الكره وعامله ككاتب منبوذ سيئ السمعة، لذلك كان من الطبيعي أن يكون قارئا غير عادي يملك وصفاته التي لا تشبه قارئا آخر، ربّما كانت وصفته الأساسية لا تقتصر على عدد الكتب بقدر ما تشمل بالأساس نوعيتها أو كما يقول هنري ميلر: «ما الذي يجعل كتابا ما يبقى حيا؟ كم من مرّة طُرِح هذا السؤال! والجواب، في اعتقادي، بسيط. الكتاب يبقى حيا عبر التوصية المُحبّة التي يقدّمها قارئ إلى الآخر. لا شيء يمكنه أن يخنق هذا الحافز الأساسي عند الكائن البشري، وعلى الرغم من آراء الساخرين وكارهي البشر، اعتقادي هو أنّ البشر سوف يُكافحون أبدا للتشارك أعمق في تجاربهم».

كانوا أحياء وكلّموني

أجلسُ في غرفة صغيرة، أحد جدرانها أصبح الآن مكسواً برمته برفوف من الكتب. إنّها المرّة الأولى التي أحظى فيها بمتعة العمل بأي شيء يشبه مجموعة من الكتب. لعلها في المُجمل لا تتجاوز الخمسة آلاف، ولكنّ غالبيتها تمثّل اختياري الخاص. وهي المرّة الأولى منذ أن بدأتُ مسيرتي في الكتابة التي أجد فيها نفسي مُحاطاً بعدد ضخم من الكتب طالما تُقْتُ إلى امتلاكها. ولكن كوني في الماضي قمتُ بعملي في مُعظمه من دون الاستعانة بمكتبة أعتبره مزيّة وليس نقيصة.

أحد أوّل الأشياء التي أربطها بقراءة الكتب هو الصراع الذي خُضْته من أجل الحصول عليها. لا أقول أمتلكُها، انتبه، بل أنْ أضع يدي عليها. ومنذ اللحظة التي تملكني فيها الشوق لم أُواجه إلّا العقبات، فالكتب التي أردتها، من المكتبة العامة، كانت دائما طبعاتها نافدة، وطبعا لم يكن في حوزتي المال اللازم لشرائها…

الكتب هي أحد الأشياء التي يُدللها البشر بعمق. وكلّما كان الإنسان راقيا يتشارك بشكلٍ أسهل بمقتنياته العزيزة، وكتابٌ يتمدّد بتكاسل على رفٍ هو ذخيرة ضائعة سُدى. وكالمال، يجب جعل الكتب في حالة تداول مستمر. استعِرْ وأعِرْ إلى أقصى مدى، كتبا ومالا معا ! سيّما الكتب، لأنّ قيمة الكتب أعلى بما لا يُقاس من قيمة المال. فالكتاب ليس فقط صديقا، بل يصنع لكَ أصدقاء. وعندما تمتلك كتابا ذا عقلٍ وروحٍ، تغتني. ولكن عندما تعطيه لشخصٍ آخر تغتني ثلاثة أضعاف.

هنا يتملكني حافز لا يُقاوم لتقديم نصيحة مجّانية. ها هي: اقرأ أقلّ ما يمكن، وليس أكثر ما يمكن ! أوه، لا ينتابكَ الشكّ في أنّي حسدتُ أولئك الذين غرقوا في الكتب. أنا، أيضا، أودُّ في سرّي أن أخوضَ في تلك الكتب كلّها التي طالما عبثتُ بها في عقلي. ولكنّي أعلم أنّ هذا ليس هاما. أنا أعلم الآن أنّي لم أحتج إلى قراءة عُشر ما قرأتُ. إنّ أصعب شيء في الحياة هو أن يتعلّم المرء أن يفعل حصرا ما هو في صالحه، وما هو حيوي حصرا.

هناك طريقة ممتازة لاختبار هذه النصيحة النفيسة التي لم أعطها بتهوّر. فعندما تصادف كتابا ترغب في قراءته… دعه وشأنه بضعة أيام… دع العنوان واسم الكاتب يدوران في عقلك. فكّر ماذا كان يمكن أن تكتب لو أتيحت لك الفرصة. اسأل نفسك بحدّية إذا كان ضروريا أن تضيف هذا العمل إلى مخزونك من المعرفة أو إلى ذخيرتك من المتعة. حاولْ أن تتخيّل ماذا يعني أن تُضيّع هذه المتعة أو الفائدة الإضافية. حينئذ، إذا وجدتَ أنّه لابدّ لك أن تقرأ الكتاب، فانتبه بأيّ فطنة استثنائية تتعامل معه. انتبه، أيضا، إلى أنّه مهما كان مُثيرا، فإنّ القليل جدا مما يحتويه الكتاب جديد حقا عليك. وإذا كنت صادقا فسوف تكتشف أنّ مكانتكَ ارتفعت عن مجرّد بذل الجهد لمقاومة دوافعك.

                                    

مكسيم ديكو.. في مديح القارئ السيئ

تعددت المفاهيم المتعلقة بالقراءة وأشكالها، وتمّ، تبعا لذلك، اصطلاح أنواع القراءة وإسناد فعلها إلى القارئ الضمني أو المثالي والنموذجي حسب المناهج والمدارس النقدية. وفي كلّ الأحوال تدرّج مفهوم القراءة من مستوى القراءة الفعلية والمباشرة إلى مستوى التأويل، لكنّها في العموم اعتبرت دوما قراءة جيّدة من جهة كونها تنضبط بالأساس إلى النصّ أوّلا ومجمل القواعد المرسومة سلفا. لكن الكاتب والناقد الفرنسي مكسيم ديكو Maxime Decout يقترح علينا مفهوما جديدا أطلق عليه اسم القارئ السيئ:

«… القراءة ليست، بأيّ حال من الأحوال، نشاطا متجانسا. افتحوا أيّ قاموس من قواميس اللغة، وسوف يتبيّن لكم أنّ كلمة «قراءة» تنطوي على معنيين على الأقل، فهي بقدر ما تدلّ على تأويل نص بقدر ما تدل على تأويل نص بقدر ما تشير أيضا إلى فعل القراءة المحسوس. وبناء عليه، ففي وسعكَ أن تكون قارئا سيئا إمّا لأنّك لا تؤوّل النص حسبما يُنشد أو لأنّك لا تمارس القراءة وفق هذا النشاط. فسواء من جهة موقفك الفكري والانفعالي والوجداني أو من جهة أسلوبك الفعلي في قراءة نص معيّن، فمن الواجب علينا إذن المرور إلى تحديد ماهية القارئ السيئ. فالقارئ السيئ هو ذلك القارئ الذي لا يتبع، سواء في فكره أو انفعالاته وعواطفه، نفس المنطق الداخلي الحميم للنص، أو هو ذلك القارئ الذي لا يقرأ، عمليا، النص كما يريد النص ذلك. بمعنى أنّه، على الأغلب، لا يقرأ كلمة كلمة، وسطرا سطرا.

بيد أنّه من الغريب المدهش أن يُحتفى بالقراءة الجيدة في حين أنّها تكاد أن تكون أعزّ من الكبريت الأحمر في الحياة اليومية. لاشكّ أنّ القارئ الواقعي حظي في السنوات الأخيرة بمحاباة النقد الأدبي، وعلم الاجتماع والتاريخ، والأنثروبولوجيا والديداكتيك. ومع كلّ ذلك فهو ليس إلى الآن قارئا سيّئا. كانت النظرية النقدية تميل بالأحرى إلى أن تتفادى ولوج المضمار، من الواجب القول إنّه مضمار ولق، هذا إن لم نقل إنه ملغوم. ومع ذلك، فنحن أبعد ما نكون عن القراءة الجيدة، كي لا نتخيّل اليوم الثروات الخفية وغير المتوقعة للقراءة السيئة. لكن هذا لن يكون ممكنا إلّا إذا تحوطنا وحاذرنا استصدار أيّ حكم عنها. فلا تأخذوا إذن لفظة «سيئ» بوصفها وصمة نقدٍ، إذ إنّها تشير إلى بعد أو مسافة في العلاقة بمعيار فكري، إنّها خطوة إلى الجانب الآخر من القراءة التي يبرمجها النص. ليس الأمر مسألة مديح يُكال لجميع القرّاء السيّئين ولأيّ كان من بينهم، إذ ليس كلّ القرّاء السيّئين سواسية، لكن المثل الأعلى للقراءة الجيّدة لا ينبغي أن يكون مدعاة للشعور بالعار والخجل أو يُسفر عن كبت مواقف أخرى ما تلبث تحظى بكامل مكانها في فهمنا للأعمال، التي تطلعنا ببعض شيء عن ماهية الأدب وحقيقتنا (من نحن)، وبكيفية تعاملنا مع هذه الحقيقة وكيف نتعايش معها.

وهكذا، فإن كنّا أفضنا طويلا في التساؤل عن قواعد القراءة الجيّدة، فما يزال بإمكاننا سبر بعض الممارسات المتمردة من التي تحبذ التغريد خارج سرب القاعدة واستكشافها. فما الذي يحدث في العلاقة القائمة بينك والعمل، حين يتعطّل النظام، وحين لا يستجيب القطب الأكثر تقلبا (أنت نفسك) طبقا لمتطلبات واحتياجات القطب الآخر الأكثر ثباتا (النص)؟ إنّ مجمل هذه الأعطال والاختلالات هي التي تشكّل جوهر القراءة السيئة. ولتطويقها، لا مناص لنا من أن نتساءل… ما الذي يفعله أو يمكن أن يفعله القارئ بالنص، أكثر ممّا يجب عليه أن يفعله به».

ألبرتو مانغويل.. فنّ القراءة

اهتمّ الكاتب الأرجنتيني الكندي، ألبرتو مانغويل Alberto Manguel، بموضوع القراءة وخصّص له كتبا كثيرة من أهمها «فن القراءة» و«يوميات القراءة و«تاريخ القراءة»، ضمّنها لوحات فنية وصورا تدور كلها حول موضوع القراءة مع تعليقات للكاتب في غالبيتها ذكية ولمّاحة. إضافة إلى ذلك يورد الكاتب حكايات ونوادر وطرائف عن القراءة عبر التاريخ لأكثر الأدباء والفلاسفة المشهورين بحبهم للقراءة والكتب، خاصة علاقته المتميزة بالكاتب الأرجنتيني لويس بورخيس، دون أن يغفل تجاربه الشخصية المتعددة، ومعارفه ذات الطابع الموسوعي.

في كتابه «فن القراءة» يتناول مانغويل موضوعا طريفا لا يخلو من روع الدعابة أحيانا والنقد أحيانا أخرى، أطلق عليه العنوان التالي «ملاحظات بخصوص تعريف القارئ المثالي»، اختار لها عبارات شديدة الإيجاز أقرب إلى شكل الشذرات بالغة الإيحاء تتوخى التكثيف والتضمين بدلا من التصريح والتوضيح، يمكن أن نختار منها بعض نماذجها:

«القارئ المثالي هو تماما الكاتب قبل أن تتجمّع الكلمات على الصفحة.

القارئ المثالي وُجِد في اللحظة التي تسبق الإبداع.

القرّاء المثاليون لا يعيدون بناء قصة: إنّهم يعيدون خلقها.

القرّاء المثاليون لا يتبعون قصة: إنّهم يشاركون فيها…

القارئ المثالي هو المترجم، القادر على تشريح النصّ، سلخ الجلد، تقطيع اللبّ إلى شرائح، متابعا كلّ شريان وكلّ وريد، ومن ثم يوقِف كائنا واعيا جديدا بالكامل على قدميه. القارئ المثالي ليس محنّط حيوانات.

عند القارئ المثالي كلّ الوسائل مألوفة.

عند القارئ المثالي كلّ المزحات جديدة…

القارئ المثالي يعرف ما يعرفه الكاتب وحده بالحدس.

القارئ المثالي يدمّر النص. القارئ المثالي لا يأخذ كلمات الكاتب كحقيقة مسلّم بها.

القارئ المثالي قارئ تراكمي: كلّ قراءة كتاب تضيف طبقة جديدة لذاكرة القصة.

كلّ قارئ مثالي قارئ تشارُكيّ ويقرأ كما لو أنّ كلّ الكتب كانت عملا لمؤلف واحد غزير الإنتاج.

لا يمكن للقرّاء المثاليين أن يضعوا معرفتهم في كلمات.

بُعيد غلق الكتاب، يشعر القرّاء المثاليون بأنّهم لو لم يقرؤوه لكان العالم أفقر.

للقارئ المثالي إحساس هائل بالفكاهة.

القرّاء المثاليون لا يحسبون أبدا عدد كتبهم. القارئ المثالي سخي وجشع على حدّ سواء.

القارئ المثالي يقرأ كلّ الأدب كما لو كان غفلا من الاسم.

القارئ المثالي يروق له استخدام المعجم.

القارئ المثالي يُقيّم الكتاب من خلال غلافه.

بقراءته كتاب من قرون

ماضية، يحسّ القارئ المثالي بنفسه خالدا…

القرّاء المثاليون لا يعرفون أنّهم قرّاء مثاليون حتّى يكونوا وصلوا إلى نهاية الكتاب…

روبنسون كروزو ليس قارئا مثاليا، يقرأ الكتاب المقدس بحثا عن أجوبة. القارئ المثالي يقرأ بحثا عن أسئلة.

كلّ كتاب، جيّد أو رديء، له قارئه المثالي.

القارئ المثالي يقرأ كلّ كتاب، إلى حدّ معيّن، كسيرة ذاتية.

القارئ المثالي ليست له جنسية محددة.

القارئ المثالي لا يفكّر أبدا: (ماذا لو).

الكتابة على الهوامش علامة على القارئ المثالي.

القارئ المثالي يريد أن يهتدي.

القارئ المثالي مُتَلوّن بلا حياء.

القارئ المثالي يمكن أن يقع في حبّ واحدة من شخصيات الكتاب.

القارئ المثالي لا تهمّه المفارقة التاريخية، الحقيقة الوثائقية، الصحة التاريخية، الدقّة الطوبوغرافية، القارئ المثالي ليس أركيولوجياً.

القارئ المثالي منتهِك عديم الشفقة للقواعد والضوابط التي يضعها كلّ كتاب لنفسه…

(ثمّة ثلاثة أنواع من القرّاء، النوع الأوّل يستمتع من دون تقييم، الثالث يقيّم من دون استمتاع، النوع الآخر في الوسط، يقيّم أثناء الاستمتاع ويستمتع أثناء التقييم. الفئة الأخيرة تعيد حقا إنتاج عمل من الفن بشكل جديد، أعضاؤها ليسوا كُثْرا). غوته، في رسالة إلى يوهان فريدريش روشليتز.

القارئ المثالي يتمنّى الوصول إلى نهاية الكِتاب وعدم نهايته أبدا على حدّ سواء.

القارئ المثالي ليس بَرِماً أبدا.

القارئ المثالي لا تهمّه الأجناس الأدبية…

سيأتي زمن يعتبر كلّ قارئ نفسه قارئا مثاليا…

القارئ المثالي بطل رواية…

لا يجب الخلط بين قارئ مثالي وقارئ افتراضي.

الكتّاب ليسوا أبدا قرّاء كتبهم المثاليين.

يعتمد الأدب، لا على قارئ مثالي، بل على ما يكفي من قرّاء جيدين.

 

 

 

        

زوران جيفكوفيتش.. المكتبة

زوران جيفكوفيتش روائي ومترجم صربي، بدأ حياته الأدبية بكتابة روايات الخيال العلمي حيث حاز على شهرة كبيرة، لم تمنعه من أن يعدّ أهمّ الكتّاب الصربيين تنوعا في كتاباته وغزارة إنتاجه. انتمى الكاتب زوران جيفكوفيتش إلى ما يسمّى رواية الموزاييك أو الفسيفساء، هي عبارة عن مجموعة من قصص تبدو مستقلة، لكنها، في النهاية، ترتبط في نص كليّ واحد، تكون للفصل الأخير وظيفة الربط بين الفصول أكثر من مجرد ملخص لمجموع الأجزاء المكونة للعمل الروائي.

اكتسب زوران جيفكوفيتش شهرة عالمية كبيرة بفضل رواية «المكتبة» التي تناول فيها موضوع القراءة من خلال فصول: المكتبة الافتراضية والمكتبة المنزلية والمكتبة الليلية ومكتبة الجحيم وأصغر مكتبة وأخيرا المكتبة النفيسة…

في فصل المكتبة الليلية نصادف البطل/ القارئ أمام مكتبة غريبة لا تفتح أبوابها في الليل وبشكل غريب تختار قارئها الليلي، وعرض كتب للقراءة غير تلك التي نجدها عادة في النهار. هذه الكتب هي التي يسمّيها أمين المكتبة الغريب أيضا «كتب الحياة»، لينكشف في ما بعد أنّ القارئ في هذه المكتبة الليلية العجيبة لا يقرأ سوى كتاب حياته، وبالتالي تخرج القراءة عن مفهومها المعتاد إلى مسار آخر يحمل أبعادا رمزية ومكثفة في دلالاتها وإيحاءاتها البعيدة.

المكتبة الليلية

… وصلتُ المكتبة العامة بعد الثامنة بثلاث دقائق… كانت الأنوار ما زالت مضاءة… أمسكتُ مقبض الباب البارد في خوف ودفعته. زفرتُ بارتياح عندما انفتح الباب. دخلتُ بسرعة… كانت المكتبة دافئة، فتجمّع الندى على نظارتي الباردة وأنا أصعد الدرج… وصلتُ إلى مكان أمين المكتبة… لكن لم أجد أحدا… لم يكن أحد يجلس خلف المنضدة، تلفت في المكان بحيرةٍ. ربّما كنتُ قد مررت بأمين المكتبة وأنا مشغول بمسح نظارتي دو أن أراه. لكن لم أجد أحدا خلفي، والقاعة الطويلة خالية والصمت يسود المكتبة… وبينما أنا واقف لا أدري ما أفعل، انطفأت الأنوار فجأة…. نظرتُ حولي وعيناي تتأقلمان مع الظلام الجديد، أحاول جاهدا أن أفهم ما جرى. عندها، من مكان ما في الطابق السفلي، سمعتُ صوتا حديديا حادا كصوت مفتاح يُدار في قفل. فهمتُ ما يجري متأخرا. لا يحتاج طاقم المكتبة أن يعبروا القاعة الرئيسية ليصلوا إلى الطابق الأرضي. فلابدّ أنّهم وصلوا إلى الدرج من طريق آخر، وأنا واقف أنتظر أمام منضدة أمين المكتبة. أو ربّما أنّهم استقلّوا المصعد… هتفتُ «انتظروا» وبدأتُ بالجري…

أدرتُ مقبض الباب في كفّي ودفعته، لكن هذه المرة لم أشعر بالارتياح، بل بالغضب. كنتُ غاضبا من أمناء المكتبة، كيف يقفلون المدخل ثم يغادرون، دون أن يتأكدوا أن لا أحد في الداخل؟ صحيح أنني دخلت بعد الساعات المسموحة، ولكنهم ما زالوا على خطأ… أصابتني فكرة احتجازي في المكتبة حتّى صباح الاثنين بالفزع. لا يمكن أن أحتمل أبدا، رغم أنني لن أصاب بالملل طبعا وأنا محاط بكلّ هذه الكتب…

فُتِح باب الغرفة الخلفية… ودخل شخص ما ووقف خلف المنضدة. كنت بعيدا إلى حدّ ما، لكنني استطعت أن أتبيّن رجلا طويلا نحيلا في منتصف العمر، يرتدي بدلة داكنة. اتّجه إلى كرسي أمين المكتبة فجلس مركّزا انتباهه على شيء ما أمامه. لم يرفع رأسه أو ينتبه لوجودي، حتّى لو أنّه نظر باتجاهي فلن يراني بسهولة، لأنّني متّشح بالظلام حولي.

سعلتُ وتقدمت تجاهه ببطء. قلت بصوت معتدل مبتهج: مساء الخير.

مساء النور. كيف أساعدك؟

أود أن أشرح لك. لقد تأخرتُ قليلا…

قاطعني الرجل الجالس خلف المنضدة: لم تتأخر على الإطلاق، نحن نعمل في الليل. هذه هي المكتبة الليلية

حدّقت فيه بحيرة: المكتبة الليلية؟ لم أكن أعلم أنّ ثمة مكتبات ليلية.

– بل توجد. وهي موجودة منذ زمن طويل، رغم أنّ قلّة من يعرفون عنها. أتبحث عن كتاب ما؟

– أجل، أنا أستمتع بالقراءة خلال نهاية الأسبوع. وكنت أخشى ألّا يكون لديّ ما أقرؤه هذه المرة. من الرائع أن تكون الكتب متوافرة في الليل أيضا.

– طبعا متوافرة. رغم أن تشكيلة الكتب التي نعرضها تختلف عن الكتب المعروضة في فترة النهار. فليس لدينا سوى كتب الحياة.

 

رفّ الكتب

 

الأيقونولوجيا.. الصورة والنّص والإيديولوجيا

يكتسي كتاب «الأيقونولوجيا.. الصورة والنص والإيديولوجيا» للكاتب و.ج.ت. ميتشل، الصادر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار بترجمة لعارف حديفة، أهمية كبيرة بسبب ما أصبح عليه عالمنا من اكتساح قوي للصور وتشكيلاتها المتعددة وارتباطها بشكل معقد بأنظمة ذات طابع إيديولوجي يصعب فيه الفصل بين مكوناتها وغاياتها وأهدافها الحقيقية. يقدم الكتاب نفسه باعتباره محاولة لرصد ما يقوله النّاس عن الصوّر، واهتمامه الأوّل ليس برسوم معيّنة وبما يقوله الناس عنها، بل هو اهتمام بالطريقة التي نتحدث بها عن «فكرة» الصّورة وبجميع الأفكار المرتبطة بها: التصوير والتّخيل، والإدراك، والتشبيه، والمحاكاة… إذن هو كتاب عن الصور وليس فيه منها سوى بعض المخططات التوضيحية، كتاب حول رؤيا كأنّما كتبه كاتب مكفوف لقارئ مكفوف، وإذا تضمن أيّ تبصر في صور واقعية مادية، كان ذلك مما قد يصل إلى مستمع مكفوف يسترق السمع إلى مبصرين يتحدثون عن صور. وأفترض أنّ مثل هذا المستمع يمكن أن يتخيّل أشكالا مرسومة في هذه الأحاديث قد لا يراها المشارك المبصر.

يمعن المؤلف النظر في الإجابة عن سؤالين يبرزان بانتظام في ما يقوله النّاس: ما الصورة؟ وما الفارق بين الصور والكلمات؟ ويحاول أن يفهم الإجابات التقليدية عنهما، بالرجوع إلى الاهتمامات الإنسانية التي تجعلها ملحة… لماذا تصبح ماهية الصورة مهمة؟ ما الذي يكون على المحكّ في تحديد الفروق بين الصور والكلمات أو في إزالتها أو محوها؟ ما أنظمة السلطة أو قواعد القيمة، أي الإيديولوجيات التي تصوغ الإجابات عن هذه الأسئلة وتجعلها مسائل للجدال أكثر منها اهتمامات نظرية بحتة؟

 

 

متوجون

سيكون المسرح الجامعي المغربي ضيف شرف في المهرجان الدولي للمسرح الجامعي الذي ينظمه المسرح الجامعي الملكي لمدينة لييج ببلجيكا، من خلال العروض التالية:

  • Psychose يوم 23 أبريل، فرقة فضاء المسرح المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير/ طنجة
  • Tahaja يوم 25 أبريل المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي/ الرباط
  • The other يوم 26 أبريل Ô Théâtre/ مراكش
  • Refuge يوم 27 أبريل فرقة مسرح «أرلكان» جامعة الحسن الثاني/ الدار البيضاء.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى