الرئيسية

نوسطالجيا سيئة الاستعمال

سعيد الباز
سمحت وسائل التواصل الاجتماعي التي غزت الفضاء الإعلامي، بتبادل الصور القديمة عن مغرب الأمس تعود إلى فترة الستينيات والسبعينيات، ما أثار تعليقات وردود أفعال مفعمة بالأسف عن هذا الماضي الجميل مقارنة بالحاضر. أكثر ما يستوقف في هذه التعليقات هو التركيز الشديد على عدة مظاهر في عمومها إيجابية وكأنّها لا تمت إلى حاضرنا بشيء، منها نمط العيش المنظم وأساليب اللباس والزينة، خاصة بالنسبة للنساء، فضلا عن البذلات الأوروبية بالغة الأناقة بالنسبة للرجال، إضافة إلى نظافة الشوارع وخلوها من كلّ المظاهر السيئة المألوفة لدينا اليوم، حيث لا تسلم من الفوضى المرورية، هذا إذا نجت من الاحتلال من قبل حشود لا متناهية من الباعة من كل ما لا يخطر على البال من شتى صنوف البضائع، حتّى تحولت بعض مدننا، على حدّ قول البعض، إلى مجموعة من الأسواق العشوائية بدلا من ساحات عمومية أو أحياء وشوارع…
الحقيقة في الأمر أننا، من خلال هذه الصور والمقارنة بواقع الحال، بدل أن نسقط ضحية مكر التاريخ نسقط ضحية مكر الصورة، وأننا، شئنا ذلك أم أبينا، قد خدعتنا نوسطالجيا سيئة الاستعمال وليست في مكانها بالمرة. ذلك أنّ المقارنة ليست في محلها، فمغرب تلك الفترة التي تدغدع أحلام الكثير منا، غير المغرب الحالي لعدة أسباب. أهمها أنّ ذلك المغرب كان في معظمه قرويا والمدن على قلتها لا تشكل سوى أربعين في المائة أو أقل من مجمل ساكنة المغرب. المدن نفسها ما زالت كما خلفها الإرث الاستعماري موزعة بين مدينة عتيقة وأخرى حديثة، وحزام من أحياء الصفيح التي بدت غير لافتة للنظر أو على الأصح، من وجهة نظر المستفيدين من هذا الوضع، أنّها ضرورية لما توفره من يد عاملة تنعش الأحياء الصناعية المرتبطة بالمدينة الحديثة وتطورها. كانت مدينة الدار البيضاء، باعتبارها أكبر المدن المغربية، أوضح مثال لتطور المدينة والمراحل التي مرّ منها هذا التطور. لم تكن المدينة الحديثة ذات طابع أوروبي فقط من حيث المرافق المختلفة وتنظيم المجال من ساحات عامة وأحياء إدارية وسكنية… بل كانت أيضا تفرض، بسبب مركزيتها في هذا الفضاء الحضري، نمط العيش وأسلوب الحياة من حيث اللباس والعادات الاجتماعية الجديدة التي لم تكن تقليدا ومسايرة للواقع الاجتماعي، وإنّما سعي الكثيرين من مغاربة تلك الفترة إلى الاندماج وتأكيد الذات في هذا الوسط الحضري، باعتبار أنّهم في الغالب من أصول قروية مهاجرة سمح لهم تعليمهم أو أعمالهم الحرة بإحداث نقلة مهمة في حياتهم.
لقد كان لهذا النموذج للمدينة الحديثة في تلك الحقبة إغراؤه وجاذبيته وانعكس ذلك على العديد من التمثلات في الخطاب، خاصة في المسرح والأغاني، وإطلاق النكات والتعابير والأوصاف القدحية أو المدحية، من قبيل ثنائية (العروبي/ المديني) والمرأة العصرية والبدوية… رغم ذلك، لم يكن الأمر يخلو من بعض التعايش بين النموذج الحديث والنموذج التقليدي حيث يحظى كلّ واحد منهما بامتيازاته الخاصة كلّ في مجاله وسياقه الاجتماعي الخاص به، كلما انتقلنا بين هذه الفضاءات المشتركة من المدينة التقليدية إلى المدينة الحديثة، وحزام الأحياء الهامشية المحيطة بها إلى الشريان المغذي للمكونات الأخرى، أي العالم القروي. إنّ هذه الصور عن هذه الحقبة بالتحديد قد تملأ قلوبنا بالحنين وبالرغبة في استعادته تعويضا عن الواقع المؤلم، لكنّها، في الآن نفسه، تغيّب عن أنظارنا ما كان يعتمل داخل النسيج الاجتماعي، خصوصا في الأحياء الهامشية التي صارت تتحكم في الصيرورة الاجتماعية على حساب المدينة الحديثة لتخلق وجها آخر للمغرب الحالي.
وفي كل الأحوال حتى النوسطالجيا، كما قال الكاتب الكندي Neil Bissoondath: «تأتي عندما لا يكون الحاضر في مستوى وعود الماضي».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى