شوف تشوف

شوف تشوف

وتستمر الحياة

كل التحليلات الاستراتيجية لما قبل جائحة كورونا أثبتت فشلا ذريعا في توقعاتها، تماما مثلما فشلت أيضا تحليلات أخرى، بما فيها الطبية والعلمية، تحدثت عن نهاية “طبيعية” للجائحة في فصل الصيف بسبب ارتفاع درجة الحرارة. وها نحن نرى فصل الصيف ينتهي والجائحة لا تزال تحصد الضحايا، بل إن هناك من يتحدث عن احتمال قدوم موجات أخرى. أقصى ما يمكننا القيام به، على مستوى التحليلات دوما، هو المقارنة بين الإجراءات والتدابير المتخذة من دولة إلى أخرى، كأن نقارن بين دول لم تطبق إجراءات الإغلاق الشامل واستمرت في التعايش مع انتشار الفيروس لتتجنب التكاليف الباهظة التي ستدفعها شعوبها على مستوى جودة الحياة، ودول أخرى، ومنها المغرب، اختارت تحمل التكاليف واضعة في أولوياتها ضمان السلامة الصحية للمواطنين.
وفي كلتا الحالتين نحن أمام اختيارات لكل منها صلاحية ومحدودية أيضا، لكن المؤكد أننا لسنا أمام حل نهائي من حيث الفعالية. وهذا يفرض علينا أن نغير منظورنا لما يحدث لنتساءل لماذا علينا أن نبذل جهودا أكبر على مستوى التعايش مع الفيروس، مثلما تعايشت البشرية مع كوارث كثيرة، كالتغيرات المناخية مثلا والتي لا تقل خسائرها عن تلك التي يحدثها الفيروس حاليا.
المؤكد حتى الآن هو أن القضاء النهائي على الفيروس يبقى رهانا غير مضمون، والجدل الطبي والعلمي الذي يدور عالميا الآن حول اللقاحات خير دليل على ذلك. ليبقى الحل هو إيجاد طرق واقعية للتعايش معه، لتجنب الأخطاء القاتلة في محاصرة الجائحة وتوفير الجهود المبذولة لقطاعات تتعلق بالحياة. إذ بدل أن يتم تدبير الجائحة يوما بيوم مثلما يحدث الآن علينا أن نغير منظورنا إليها بحيث نضع استراتيجيات متوسطة المدى على الأقل، على مستوى تدبير السياسات العمومية، تأخذ بعين الاعتبار حقيقة بقاء الجائحة في المستوى الذي هي عليه الآن.
لقد انهارت كل حقائق ما قبل ظهور كورونا، مثلما انهارت حقائق أخرى تم الترويج لها سياسيا وإعلاميا وصحيا وعلميا أثناء تفشيه. ففي بداية الجائحة قرر المغرب أن ينضم لمعسكر البلدان التي قررت تطبيق الإغلاق الشامل. وكانت نتائج هذا القرار اقتصاديا واجتماعيا مؤلمة جدا. وحتى لو افترضنا أن الفيروس انتهى اليوم، فسنحتاج سنوات طويلة لتستعيد البلاد عافيتها. والحال أن الفيروس مستمر، فإن هذا يعني أن الإغلاق لم يعط ثماره المرجوة. إذ بمجرد ما تم التخفيف من إجراءات الإغلاق قفزت أعداد الإصابات إلى مستويات لم يتوقعها أكثرنا تشاؤما، وبتنا على أبواب 3 آلاف مصاب يوميا.
فالحجر الصحي لم يقض على الوباء ولكنه جعلنا في وضع اقتصادي ونفسي كارثي على جميع مستويات الحياة، فرديا وجماعيا. فالذي نراه الآن هو تدبير هذا الوضع بحزمة إجراءات اجتماعية واقتصادية، من قبيل دعم بعض القطاعات الأكثر تضررا، أو دعم المستخدمين المطرودين، وهي إجراءات قد تكون فعالة لتخفيف الألم لكن لا يمكن على كل حال اعتمادها بشكل دائم لأنها مكلفة جدا.

نحن الآن ننطلق من حقيقة لم تعد قائمة وهي أن الجائحة استثنائية لأنها فرضت علينا واقعا استثنائيا وبالتالي ينبغي تدبيرها بطريقة استثنائية، تفكيرا وممارسة. ومثلما قلنا قبل قليل، فهذه الحقيقة انهارت الآن، فنحن أمام جائحة مستمرة في التواجد معانا كمعطى واقعي، لذلك ينبغي لنا التفكير أيضا بشكل واقعي، أي بعيدا عن بلاغات منتصف الليل وإجراءات إغلاق مدن ومناطق صباحا وفتحها مساء. وما حدث عشية عيد الأضحى من ارتجالية في إغلاق بعض المدن والكوارث التي حدثت بعدها خير دليل على أننا في حاجة لأن نتعامل مع الجائحة كأمر واقع لنتمكن من التفكير بهدوء دون تسرع لتجنب الأخطاء.
لا نقصد هنا التقليل من خطورة الفيروس أو الاستسلام لانتشاره ولكن نقصد التعايش مع حقيقة أنه معنا وسيظل، ولا أحد يمكنه مهما كانت مرتبته العلمية أن يثبت عكس هذا. فما يتعبنا اليوم في المغرب ليس فقط ارتفاع الإصابات أو ارتفاع مؤشر الإماتة ولكن يتعبنا أيضا مناخ الشك وغياب اليقين الذي يلازمنا. فقد جربنا الإغلاق الشامل واستمرت الجائحة، وجربنا تدبير الإغلاق محليا وجهويا وها هي مستمرة أيضا، إذن ألا يفرض هذا أن نتعامل مع الفيروس كحالة ذهنية؟
فمثلما أن المرض والصحة، والشباب والشيخوخة، والأنوثة والذكورة هي حالات ذهنية يترتب عليها نمط من التفكير تجاه الذات وتجاه الآخرين والعالم، علينا أيضا أن نحول الفيروس إلى حالة ذهنية، ونتصرف على أساس أنه أمر واقع وليس طارئا. وبدل أن ينتظر المواطنون، مستثمرين كانوا أو موظفين أو مستخدمين أو مزاولين لأنشطة اقتصادية حرة، نشرات وزارة الصحة، وما يترتب عليها من قرارات منتصف الليل ليعرفوا هل سيفتحون محلاتهم ومقاولاتهم ومكاتبهم غدا، وهل سيغادرون منازلهم صباحا، علينا أن نعزز ثقة الجميع ليكون التعايش مع الجائحة أسلوبا في الحياة.
المؤكد أن للسلطات معطيات لا نملكها نحن، وعلى أساسها يتم اتخاذ حزمة إجراءات للحد من انتشار الفيروس، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تنطلق من معطى هو أن الحد من هذا الانتشار يتم عبر التباعد الاجتماعي، لذلك تغلق المطاعم والمقاهي والحدائق والحمامات وتلغي كافة التجمعات والتظاهرات التي يمكن أن تتحول إلى بؤر، والهدف أساسًا هو تجنب حالة انهيار المنظومة الصحية، المنهارة أصلا.
هذا الربط بين الإجراءات المتخذة والفرضيات التي تنطلق منها قد يكون له مستوى من المعقولية، لكن ينبغي علينا ألا ننسى أن الدول الغنية كألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي تتبنى هذا التصور نفسه ليست هي المغرب، وأن القوة الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان تتيح لها إمكانية الاستمرار في هذا النهج لسنوات أخرى قادمة، وهو ما يصعب علينا نحن في المغرب. فما نراه اليوم هو أن الحجر الصحي لم يعد موجودا لكن البلاد شبه متوقفة. إن على مستوى فرص الشغل أو مناخ الاستثمار أو الأنشطة الحياتية المعتادة كالسياحة. فكل شيء في وضعية توقف وترقب وانتظار.
لا يتعلق الأمر بوضع عادي كما قلنا ولكن علينا التعايش معه لنفكر بشكل عادي. فبدل أن نختار بين صحة المواطن وصحة الاقتصاد، كما نفعل الآن يمكننا أن نهتم بالأمرين معا. والأمر يتعلق هنا بنمط من التفكير الذي ينطلق من فرضيات أخرى غير تلك الفرضية سابقة الذكر التي تنطلق منها السلطات حاليا. فالمواطنون الذين سجلتهم الكاميرات في فيديوهات انتشرت مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي يتجاوزون الحواجز التي وضعتها السلطات لإغلاق أحيائهم لم يكن فعلهم هذا بسبب عدم احترامهم للقانون أو جهلهم بطبيعة الفيروس، ولكن لأن لسان حالهم يقول “ومع ذلك دعونا نعيش”. وكما قال أحدهم، في تعليق له على هذه الحوادث “إن كان الموت محتم، فإن الموت بالمرض على شبع أفضل من الموت به جوعانا”.
وفي الوقت الذي يموت فيه العشرات بسبب المرض يوميا نرى الآن الملايين تموت معنويا واقتصاديا واجتماعيا ونفسيا بشكل بطيء ومأساوي. لذلك لا مفر من التعامل مع الفيروس كواقع عادي لنفكر كدولة وأفراد بشكل عادي. فالاحتياطات الفردية والجماعية التي تضمن سلامة وصحة المواطنين واجبة لكن ينبغي للحياة أن تستمر خصوصا وأن التوقف الذي حدث ويحدث لم يمنع من استمرار انتشار الفيروس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى