
عبد الإله بلقزيز
كثيرا ما دار الحديث، في الصحافة ووسائل الإعلام ومراكز الدراسات، عن تحول كبير في رسم السياسة الأمريكية لأولوياتها الاستراتيجية في العالم يحدث، حثيثا، منذ نهايات العقد الأول من هذا القرن ويعيد النظر في كثير من الخيارات السابقة التي درجت تلك السياسة على نهجها منذ عقود.
وغالبا ما يقع التشديد في ذلك الحديث على تراجع مكانة «الشرق الأوسط» في هذه الاستراتيجية الجديدة، مقابل التركيز على بحر الصين الجنوبي كمجال حيوي جديد في السياسة الأمريكية.
يتعلق الأمر، هنا، بفرضيتين تقوم عليهما تلك الرواية: تراجع مكانة «الشرق الأوسط»، أي – في لغتنا – المشرق العربي والخليج العربي وجوارهما الإقليمي الإسلامي، وتعزز مكانة بحر الصين الجنوبي ومحيط الدول الواقعة على سواحله (الصين، تايوان، الفلبين، والجزر العديدة الواقعة فيه) في سياسات أمريكا الاستراتيجية. فما حظ الفرضيتين من الصحة؟
أن يكون الاهتمام السياسي الأمريكي ببحر الصين الجنوبي قد تزايد، في الأعوام الأخيرة، فهذا من المعلوم الذي لم يعد تحتاج إلى كبير تحر وبيان. تكفي مطالعة الخطاب السياسي الرسمي في مراكزه الكبرى (البيت الأبيض، الكونغرس، الخارجية، ومراكز الدراسات والمعاهد التابعة لها وللبنتاغون والاستخبارات) للوقوف على الهاجس الصيني في العقل السياسي الأمريكي؛ مثلما تكفي مراقبة الحشود العسكرية الأمريكية هناك، على حواشي البحر وفي عمق بعض مياهه، للتدليل على أن بحر الصين الجنوبي بات ميدان فعل سياسي وعسكري أمريكي رئيس لمحاصرة النفوذ الصيني المتنامي.
هذا تحول مفهوم بالنظر إلى تعاظم التحدي الصيني لمركز الولايات المتحدة في العالم، وخاصة لمركزها الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي. وهي تدرك أن المعركة مع الصين ونفوذها المتزايد لا يمكن أن تلقى نجاحا، إلا متى أمكن إطباق الحصار على نفوذها في محيطها المباشر، ومنعه من التمدد. وأول ما تسعى إليه واشنطن إسقاط الصفة الصينية عن بحر الصين الجنوبي، الذي تتمسك الصين به مجالا حيويا لها، واعتباره مياها دولية مفتوحة، من طريق التشديد على وجوب حماية حرية الملاحة الدولية فيه. ولأن الصين متمسكة بمبدأ استعادة جزيرة تايوان إلى سيادتها، تجد الولايات المتحدة في تايوان – كما في الفلبين – نقطتيْ ارتكاز لوجودها في المنطقة، تحت عنوان حمايتهما من خطر غزو صيني فتُـكـثف، بذلك، نشر قطعها البحرية لردع تمدد النفوذ الصيني.
والصين من جهتها لا تتردد في الدفاع عما تعتبره منطقة نفوذ ومجالا بحريا إقليميا لها، وهي تجاهر بذلك، متحدية خطط الإدارة الأمريكية، وتوسع نطاق انتشار قطعها الحربية ملوحة باستخدام القوة العسكرية، إذا لزم الأمر. ولعلها تكون مطمئنة إلى أن حربا أمريكية عليها ستظل مستبعدة؛ لأن الإدارة الأمريكية لن تستطيع أن تبررها في الداخل الأمريكي، لعدم اتصالها بحماية الأمن القومي مثلا، ولأن كلفتهما المادية والبشرية ستكون باهظة وفوق الطوق والطاقة، ولن يكون بعيدا عن التقدير الصيني أن تجد الولايات المتحدة نفسها يوما – أمام الحزم الصيني – مضطرة إلى الانسحاب من بحر الصين الجنوبي، كما اضطرت هي نفسها الدول الأوروبية إلى الانسحاب من الكاريبي، بموجب مبدأ الرئيس الأمريكي جميس مونرو (مبدأ مونرو) الذي قضى – في العام 1823 – بإبعاد القوى الأوروبية عن مياه القارة الأمريكية.
إذا كان الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي قد انصب، في السنوات الأخيرة، على الصين للأسباب التي أومأنا إليها، فليس ينبغي أن يُظَن أن ذلك سيكون على حساب مكانة المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في السياسة الأمريكية. ولا يُعْتَد هنا بـ«الأدلة» التي تُساق في معرض إثبات وجاهة هذه الفرضية، مثل الانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان؛ ذلك أن الانسحاب هذا طبيعي بالنظر إلى فشل الأهداف الأمريكية من غزو البلدين واحتلالهما. وإلى ذلك فهو متوقع لأنه تقرر سلفا، بل لقد يكون تأخر تنفيذه لأسباب تتعلق بعدم بناء رؤية موحدة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشأنه، أو تتعلق بالتقديرات غير المتطابقة بين البيت الأبيض والبنتاغون بشأنه.
ليس من مسوغ للقول، إذن، إن مكانة هذه المنطقة ستتراجع في سياسات واشنطن، أو إن هذه قد تنكفئ عنها في المستقبل المنظور، بل ليس ثمة ما يحملها على مراجعة تلك المكانة. ما دامت منطقة «الشرق الأوسط» منطقة لمصادر الطاقة، ولطرق التجارة البحرية للنفط والغاز؛ وما دامت أمريكا ملتزمة بأمن حليفها الأكبر فيها (= إسرائيل)، ومهتمة بمحاصرة النفوذ الإيراني في الإقليم، وحريصة على الدفاع عن مصالحها التقليدية فيها ضد زحف المنافسة الاقتصادية الصينية على الأسواق العربية وأسواق الجوار الإقليمي، وضد زحف النفوذ السياسي والعسكري الروسي… إلخ، فلن تجد الولايات المتحدة الأمريكية من مصلحة لها في الانكفاء عن «الشرق» الأوسط؛ إذِ الانكفاء هذا- إن حصل- سيضع المنطقة على طبق من ذهب أما خيميْها اللدوديْن: روسيا والصين.
نافذة:
المعركة مع الصين ونفوذها المتزايد لا يمكن أن تلقى نجاحا إلا متى أمكن إطباق الحصار على نفوذها في محيطها المباشر ومنعه من التمدد




