
بقلم خالص جلبي
يقول المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في سفره التاريخي المكون من 42 مجلدا، عندما يتحدث عن حضارات الشرق الأدنى: (لقد حيرت الكتابة البابلية العلماء، فظلوا مئات السنوات عاجزين عن حل رموزها، وكان نجاحهم في حلها آخر الأمر عملا من أجلِّ الأعمال في تاريخ العلم). وتفصيل ذلك أن (جورج جروتفند)، أستاذ اللغة اليونانية في جامعة (غوتنغن) أبلغ المجمع العلمي في تلك المدينة عام 1802 م أنه ظل عدة سنين يواصل البحث في بعض مخطوطات مسمارية وصلت إليه من بلاد الفرس القديمة، وأنه استطاع آخر الأمر أن يتعرف على ثمانية من الاثنين والأربعين حرفا المستعملة في هذه النقوش، وأنه ميز ثلاثة من أسماء الملوك المدونة فيها، وبقيت الحال كذلك حتى عام 1835 م حين استطاع (هنري رولنسن) أحد موظفي السلك السياسي البريطانيين في إيران، على غير علم منه بما توصل إليه جروتفوند أن يقرأ ثلاثة أسماء هي (هتسبس) و(دارا) و(حشيارشاي = كزركسيس) في نقش مكتوب بالخط الفارسي القديم، وهو خط مسماري مشتق من البابلية، وأمكنه بفضل هذه الأسماء أن يقرأ الوثيقة كلها في آخر الأمر، لكن هذه الكتابة وإن كانت مشتقة من الكتابة البابلية لم تكن هي البابلية نفسها، وقد بقي على رولنسون أن يعثر على حجر رشيد مصر، أي على نص واحد باللغتين الفارسية القديمة والبابلية.
وهذا ما عثر عليه في مكان يعلو عن سطح الأرض نحو ثلاثمائة قدم. وكان هذا النقش على صخرة يتعذر الوصول إليها عند (بهستون) في جبال (ميديا)، حيث أمر (دارا الأول) الحفارين أن يسجلوا حروبه وانتصاراته بثلاث لغات: الفارسية القديمة والآشورية والبابلية.
وظل (رولنسن) يوما بعد يوم يرقى هذه الصخرة معرضا بذلك حياته لأشد الأخطار، وكثيرا ما كان يشد نفسه بحبل وهو ينسخ كل حرف من حروفها بعناية بالغة، حتى لقد كان أحيانا يطبع النقش كله على عجينة لينة، وبعد جهد دام اثنتي عشرة سنة كاملة، نجح في ترجمة النصين البابلي والآشوري عام 1847. وأرادت الجمعية الآسيوية الملكية أن تتثبت مما وصل إليه رولنسون وغيره من العلماء في هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق، فأرسلت إلى أربعة من علماء الآثار الآشورية أربع صور من وثيقة مسمارية لم تكن قد نشرت وقتئذ، وطلبت من كل منهم على انفراد أن يترجمها مستقلا عن الثلاثة، دون أن يتصل بهم أو يراسلهم، فلما جاءت الردود وجدت كلها متفقة مع بعضها اتفاقا يكاد يكون تاما، وبفضل هذا الكفاح العلمي المنقطع النظير اتسعت دائرة البحوث التاريخية، بما دخل فيها من علم بهذه الحضارة الجديدة (1). والذي حصل مع رولنسون حصل لاحقا مع شامبليون الفرنسي، حينما فك لغز اللغة الهيروغليفية، بعد جهد استغرق عشرين عاما.
نظرية شامبليون التي قادت إلى الفتح الفلولوجي التاريخي
كانت النظرية التي وضعها (شامبليون) أن هذه الرسومات العجائبية للغة المصرية القديمة، التي سماها الإغريق (هيروغليفية)(2) بين مربعات وخطاطيف ومنشار ونصف هلال وثعبان وعصفور! ليست صورا، بل هي حروف أبجدية للغة متكاملة، فرسمة الثعبان قد تطورت مثلا إلى حرف (ف)، ثم وقف أمام كلمتين جذبته بشكل خاص، بسبب وضعها الخاص في النص، حيث وضعت ضمن خرطوشة، أي خط بيضوي محيط بالكلمة، وجاءت الكلمة بشكل متكرر، كانت الكلمة الأولى كاملة، وهي (بطليموس) والثانية مكسورة غير كاملة وهي (كليوباترا).. ففي يناير من عام 1822 م كان شامبليون قد تلقى العديد من القطع الحجرية الأثرية، وقد ظهرت فيها كلمة كليوباترا بشكل واضح ضمن الخرطوشة، حيث حوت ما لا يقل عن عصفورين ومربع ودائرة وخطاف وسكينة ومثلث قائم ونصف هلال ورغيف خبز! وقال (شامبليون) إذا صحت نظريتي في هذه الحروف الأبجدية، فبإمكاني قراءة بقية الكلمات!
وتابع الحفر ومواصلة عمل الليل بالنهار، حتى كانت ليلة الثاني والعشرين من شتنبر من عام 1822م، عندما استطاع قراءة كلمة الفرعون (رمسيس) و(تحوتمس) بنفس آلية الحروف التي أدركها، عندها أطبق عليه الشعور أن ترجمانا قام من تحت الأرض فنقله إلى العالم القديم فهو يرى الحياة بكل تجلياتها، عندها سقط على الأرض مغشيا عليه من هول المفاجأة، لأن الأرض انشقت، فظهر الفراعنة من قبورهم يتحدثون ويضحكون ويبكون، وأطلت من بين سطور الكتابة الهيروغليفية حياة كاملة غنية، بدأت ترانيم كهنة المعبد تصدح، والبخور يعلو في موكب نقل (خوفو) إلى مثواه الأخير في أعظم ناطحة سحاب عرفها التاريخ القديم، وقعقعة السلاح في معارك العصر القديم، يخوضها تحوتمس الثالث حتى قرقميش (قريبا من مدينة حلب الحالية في سوريا). كذلك انطلقت من القبور آهات مئات الألوف من المعذبين، الذين انطحنت عظامهم وهم يحملون الصخور العظيمة على ظهورهم، تشد بالحبال وبأوتار عضلات المساكين، بوزن الأطنان، وبعمل يومي منذ شروق الشمس حتى غروبها، مقابل وجبة سخيفة من الخبز والبصل (3) من أجل تشييد مقبرة من ملايين الأطنان من الحجارة لشخص متجبر يدعي الألوهية (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى)، (ما علمت لكم من إله غيري)، مما جعل الأركيولوجيون يعقبون على عمل من هذا النوع، أنها جنون عظمة فاقت كل المعهود.
ومع الإمساك بمفتاح اللغة الهيروغليفية انفتحت أبواب الهرم، فنطق أبو الهول، وتحدث أخناتون عن ثورته الدينية، وتحوتمس عن معاركه الحربية، وخوفو عن هرمه العملاق، وأخناتون عن كنزه النفيس وقناعه الذهبي الجميل و(جيدفري –DJEDEFRE ) عن هرمه الرائع، من كتلة من أجمل ما نحتت يد الإنسان من حجر الغرانيت الأحمر بارتفاع 67 مترا، يلمع على شاطئ النيل مع غروب الشمس في منظر رومانسي خلاب، يعطيه اسم أهرام خيمة النجوم (4)!
هواشم وكتب:
(1) قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود ـ المجلد الثاني، ص 236 ـ 237. (2) كلمة هيروغليفية تتكون في اللغة الإغريقية من كلمتين هيروس
(HEROS) وتعني مقدس وجلوفي ( GLUPHE) وتعني نقش أو كتابة، فتكون كلمة هيروغليفية بهذا الشكل تعني الكتابة أو النقش المقدس، وهي اللغة التي بدأ المصريون القدماء في استخدامها، قبل حوالي خمسة آلاف سنة (3000 قبل الميلاد) (3) مجلة «الشبيغل» عدد 1/1995 مقالة التمرد ضد الموت ـ حسب التقرير الذي قدمه الأمريكي لينر والمصري حوَّاس ( LEHNER UND HAWAS)، ص: 157 (4) اشتدت حملة بناء الأهرامات في عهد الأسرة الرابعة التي حكمت مصر من أصل ثلاثين أسرة بمدة ثلاثين قرنا، وبناة الأهرامات العظام هم على التوالي (زوسر) وكان أولهم، ثم قام (سنوفرو) الذي حكم لمدة 44 سنة ببناء ثلاثة أهرامات انتهت معظمها بكوارث، بعده خوفو الذي بقي في سدة الحكم 35 سنة، وبنى أفظع الأهرامات وأعلاها وأشدها مقاومة للزمن في الجيزة بارتفاع 146 مترا، وجاء بعده ابنه جيدفري الذي لم تطل فترة ولايته لأكثر من ثماني سنوات، ولكنه بنى تحت شعار (أصغر حجما وأكثر متانة وديمومة)، فبنى أجمل الأهرامات من حجر الغرانيت الأحمر، الذي نقل من بعد ألف كيلومتر من جنوب مصر، والذي هو أقسى من الحجر الكلسي بأكثر من عشر مرات، وعلينا أن نتذكر طريقة اقتلاعه البدائية، فكان مشروعا مرعبا في تكاليف الدولة، ولم يصدق الأركيولوجيون هذا العمل، بسبب تفاهة الأثر المتبقي من جذع هرم باهت، حتى أثبته العالم السويسري (ميشيل فالوجيا ـ MICHEL VALLOGGIA)، في دجنبر من عام 1995 م، وسبب اختفاءه هو نفاسته التي أغرت اللصوص لاقتلاع أحجاره الثمينة في العصر الروماني، حيث لا أحد يدافع عن ثروة البلد وآثاره، بعد تحوله إلى مستعمرة رومانية، كما حصل لي مع الفيلا التي بنيتها في الجولان السوري. ثم حكم (خفرع)، أخو جيدفري، فبنى بارتفاع 143 مترا، وختم الحفلة حفيد خوفو (منقرع)، فبنى بارتفاع 66 مترا، فكانت حفلة بناء الأهرامات الجبارة حصيلة الأسرة الرابعة لخمسة فراعنة.





