حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

زيادة الطلب على المُنجمين

 

 

ياسر عبد العزيز

 

من بين الوقائع السيئة التي انطوى عليها العام المنصرم 2023، ما حدث في تركيا وسوريا والمغرب؛ إذ ضربت الزلازل هذه الدول الثلاث، وتسببت في كوارث إنسانية ومادية عميقة، وأوقعت ضحايا بعشرات الآلاف.

وفي غمرة الانشغال الإقليمي والدولي بهذه الزلازل وتداعياتها المأساوية، برز اسم شخص هولندي قدم نفسه باعتباره «عالم زلازل»، وأنه يرأس «مؤسسة علمية» متخصصة، وراح يستخدم وسائط «التواصل الاجتماعي» في بث تدوينات يتنبأ خلالها بزلازل ستقع، بل ويشرح أيضا الطريقة التي يستخدمها في بناء تنبؤاته.

على أي حال، فقد حدث أن وافقت بعض تنبؤاته الواقع، بينما أخفقت تنبؤات أخرى، وبينما أظهر كثيرون من متابعي هذه الوسائط اهتماما وثقة في تلك التنبؤات، فندتها مراكز البحوث المتخصصة، وانتقدها علماء متخصصون، توافق معظمهم على عدم إمكانية هذه التنبؤات من جانب، وعلى فساد مسار التنبؤ الذي يتبعه «الباحث» الهولندي من جانب آخر.

فما الذي جعل هذا «الباحث» مشهورا؟ وما الذي حمل أعدادا من أفراد الجمهور العالمي على تصديقه، بل وبناء خططهم في التنقل والإقامة على أساس ما يقوله؟

في الشريط السينمائي المُهم «البيضة والحجر»، يقدم المخرج علي عبد الخالق معالجة فنية مُحكمة لفكرة التنبؤ والتنجيم، بل ويربطها أيضا بـ«الدجل والشعوذة».

لكن ما يهمنا في هذا الفيلم، الذي عُرض في العام 1990، عن نص للسيناريست المتميز محمود أبوزيد، جملة وردت على لسان البطل «مستطاع الطعزي»، الذي أدى دوره ببراعة الممثل الموهوب الراحل أحمد زكي، ففي أحد مشاهد هذا الفيلم، يسأل ضابط شرطة البطل المتهم بالدجل عن عمله، فيقر بأنه لا يمتلك القدرة على التنبؤ أو قراءة الغيب، وحينها يسأله الضابط: وماذا تفعل إذاً؟ فيجيب بأنه يستفيد من رغبة الناس في معرفة ما يجهلونه، وهنا يسأل الضابط: هل تتهم المجتمع بالجهل؟ فيجيب البطل: لا، بل أتهمه بالضعف.

يبدو أن تلك الإجابة على قصرها وكثافتها تختصر بالفعل السبب الذي يؤدي إلى رواج عمل المنجمين؛ أي الضعف الإنساني، الذي يحمل بعض الناس على اللجوء إلى المنجمين أو المشعوذين لكي يخففوا من مخاوفهم، وعدم قدرتهم على تقبل مصائرهم، عبر محاولة معرفة ما سيحدث غدا.

لم يكن هذا «الباحث» الهولندي محل اهتمام قطاعات من غير المتعلمين أو أنصاف المثقفين أو الفقراء والمعدمين في بلدان مختلفة من العالم، بل هو أيضا، وكثيرون مثله، حظوا بجمهور أكثر ثراء وثقافة وتعليما مما يتخيل البعض.

فالضعف الإنساني هنا لا يفرز المصابين به بين متعلمين وغير متعلمين، أو أثرياء وفقراء، ولكنه يؤثر فيهم جميعا، ويحملهم على اللجوء إلى وسائل غير علمية وغير قابلة للإثبات؛ لإحداث التوازن المفقود.

ثمة قصة يمكن أن تشرح هذا التغول الكبير للضعف الإنساني، وقدرته على ضرب العقول المستنيرة والذوات الممكنة؛ ففي باحة جامعة هارفارد، التي هي من أقوى الجامعات العالمية على مدى قرون، ينتصب تمثال يجسد الشخص الذي يُنظر إليه بوصفه مؤسس تلك الجامعة. ورغم أن هذا التمثال لونه بني، فإن قدميه ذهبيتا اللون، والسبب في ذلك، أن ثمة فكرة رائجة مفادها أن من يتقدم بطلب للالتحاق بهارفارد، ويلمس قدمي هذا التمثال، يحظى بفرصة القبول. ولهذا السبب، فإنه يبدو أن لمس قدمي التمثال بواسطة آلاف المتقدمين للالتحاق بهارفارد على مدى العصور تسبب في تغيير لونهما، وهو أمر يوضح أن هذا الضعف الإنساني لا يستثنى أحدا في أوقات عديدة.

ومع نهاية العام المنصرم 2023، شاهدنا عبر فضائيات وبرامج مُعدة لوسائط «التواصل الاجتماعي»، مئات البرامج التي تستضيف منجمين أو متنبئين، لكي يتوقعوا للجمهور ما سيحدث في العام الجديد 2024.

لم يحدث هذا فقط في البيئات الإعلامية التي تخص دولا في العالم الثالث، تعاني قطاعات كبيرة من شعوبها من أعراض الفقر والمرض وغياب التعليم الجيد، ولكنه حدث أيضا في بيئات متقدمة، ودول تحتل مقدمة قوائم مؤشرات التنمية البشرية حول العالم.

وفي هذه البرامج كلها، شاهدنا مذيعين يستضيفون منجمين، ويسألون أسئلة من نوع: من سيموت من قادة العالم؟ وهل ستنتهي الأزمة الاقتصادية في هذا البلد؟ وهل ستنشب حرب بين هذين البلدين؟ وكيف ستكون صحة فلان؟ ومن سيفوز بتلك البطولة من بين الفرق المتبارية؟

تتوالى هذه الأسئلة، فيما يحلق المُنجم في سقف الاستوديو، أو يطالع كرة بلورية، أو يدقق في أوراق الكوتشينة، ثم يأتي بالإجابات، التي ستكون عناوين لاحقا في وسائل إعلام أخرى، وستكون توقعات يصدقها أفراد من الجمهور.

إنها حالة تواطؤ كاملة بين مُنجم يستغل ضعف الناس، ووسيلة إعلام تستثمر في هذا الضعف، وجمهور سمع كثيرا أن أحدا لا يمتلك القدرة على قراءة الغيب، لكنه مع ذلك، وبدافع هذا الضعف، يريد أن يعرف شيئا عن الغد، رغبة في تقليل المخاوف وإحداث التوازن.

يبني كثير من المنجمين المحترفين شهرتهم على المصادفة التي تقود أحد توقعاتهم المتعددة والعبثية إلى التحقق، ثم يتجاهلون كل ما لم يتحقق من تلك التوقعات، ويقدمون أنفسهم بالحالة الوحيدة التي تحققت في الواقع، والناس تصدق. ولا عزاء للمنطق.

نافذة:

الضعف الإنساني الذي يحمل بعض الناس على اللجوء إلى المنجمين أو المشعوذين لكي يخففوا من مخاوفهم وعدم قدرتهم على تقبل مصائرهم

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى