
هناك لحظات فارقة في التقاليد السينمائية العريقة تدرك خلالها أنك في حضرة إبداع فني حقيقي قادر على السفر بك في عوالم الممكن والمستحيل.. ومن أبرز تلك اللحظات حين يجتمع الثلاثي الأسطوري وحيد حامد وشريف عرفة وعادل إمام في واحد من أعظم أعمال السينما المصرية على الإطلاق، إنه فيلم «المنسي» إنتاج سنة 1993. شاهدت هذا الكنز الفني النادر قبل عقود وأنا طفلة منبهرة بجمال «يسرا» ورشاقتها وفستانها الأحمر المثير.. غير أن انبهاري بأنوثة البطلة ودلالها سرعان ما تبخر أمام قوة وعمق وغرابة الحوارات التي عجزت عن فهمها آنذاك، باستثناء مشهد ظل محفورا في ذاكرتي لأكثر من ربع قرن من الزمن..
«أنا لو زهقت.. أتسجن» هكذا أجاب «المنسي» على كلام البطلة الغنية خريجة الجامعات الأمريكية بعد أن أخبرته أنها غادرت حفلا باذخا لأنها ببساطة شعرت بالملل.. استغرب المنسي من الموقف وبادر بتساؤل ساخر يحتج فيه على الفوارق البنيوية بين إنسان يملك رفاهية الرحيل حين يشعر بالملل أو التعب، وإنسان لا يملك رفاهية الاختيار أو الانهيار..
ولعل أول اختبار حقيقي لعمق حوار المنسي مع السيدة ذات الرداء الأحمر، كنت قد عايشته بعد أشهر قليلة حين توفي والدي فجأة، لأجد نفسي أمام مشاعر الفقد والفراغ. تساءلت حينها عن السبيل لـ«مغادرة» هذا الإحساس المؤلم. غير أن الحياة كان لها رأي آخر، حيث لا مجال لمغادرة الألم على أرض الواقع وعلى المتضرر اللجوء للخيال.. تماما كما حدث مع «المنسي»، ذلك الموظف المطحون الذي كان يستجدي بعوالم الخيال الممتع هربا من بؤس الواقع الخانق..
تختلف السجون الإنسانية من شخص لآخر ومن وطن لآخر.. غير أن الشعور بالملل والإحباط والرغبة في المغادرة يظل واحدا.. يمنعك موقعك الجغرافي من الرحيل بسبب لون جواز سفرك.. ويمنعكِ جهازك التناسلي من الحق في الاختيار لأنك أنثى.. ويمنعك سجنك العقلي من مغادرة منطقة الأمان لأنك فاشل.. في النهاية تظل رفاهية الرحيل نسبية وغير مكتملة حتى عند أكثر الأشخاص حظا في العالم، ولعلها حقيقة مريحة جزئيا لبقية البؤساء.
يقال إن بعض الكتب والأفلام لا تُقرأ أو تُشاهد في العمر سوى مرة واحدة فقط نظرا لعظمتها وجماليتها البلاغية أو الدرامية، غير أنني أرفض هذه القاعدة وأصر على تكرار المتعة كلما سنحت لي الفرصة. أعدت مشاهدة «المنسي» في السنوات الأخيرة بعين إنسانة راشدة اختبرت بهلوانيات الحياة واكتفت من حماقات البشر. مررت مرور الكرام على فلسفة الرحيل والبقاء لأني أدركت عن قناعة تامة أننا «بقينا حاصلين».. ما أثار فضولي هذه المرة كانت لقطة خاطفة لكنها تنطوي في عمقها على حمولة اجتماعية وسياسية خطيرة جدا.
«فوزي بيه» مسؤول فاسد اغتنى من منصبه قبل أن تتم إقالته بطريقة بدا أنها كانت مهينة. لم يستسغ هذا السياسي «المحنك» وقوفه على الهامش بعد أن كان الجميع يصطف بانتظام أمام مكتبه «بحال الذبان» على حد وصفه. بعد أن تحصل «فوزي بيه» على تقاعد وزاري سمين، اختار فجأة التخلي عن «صنطيحة» السياسي وارتداء عباءة المناضل العضوي الفذ. اتخذ «البيه» على عاتقه مهمة هدم المعبد وإشعال فتيل الفتنة بين العباد.. «يا أخينا»! هكذا صرخ «فوزي بيه» السياسي الفاسد والمؤدلج، قبل أن يلقي بـ«بريكة» باتجاه «المنسي» المواطن المحبط المسحوق الذي كان يحمل في يده غازا قابلا للاشتعال.. نلاحظ كيف حافظ السياسي على مسافة الأمان بينه ومساحة قد تشتعل في أي لحظة واكتفى بالمراقبة عن بعد. بينما يتورط المواطن غير المدرك لقواعد اللعبة في لهيب الضياع ليصبح رمادا منسيا في السجون أو القبور.. هكذا هم «غرارين عيشة» و«بياعين العجل» وألتراس «آلي سي ابراهيم».
إن الحمولة السياسية والرمزية الفلسفية في أفلام الثلاثي التاريخي «حامد وعرفة وإمام» لا تسقط بالتقادم، بل يمكن، ببساطة، تطبيقها على الواقع المعيش من المحيط للخليج. في «المنسي»، كما في «الإرهاب والكباب»، نشاهد كيف يتم توريط المواطن البسيط في معارك سلطوية ضارية، ليجد نفسه في قلب عاصفة من تصفية الحسابات السياسية الثقيلة. يتحول المواطن المنسي من إنسان يطالب بتحسين أوضاعه المعيشية بما يضمن له الحق في الأمان والاستقرار والعيش الكريم، إلى بيدق يحركه «بيه» هنا و«بيه» هناك.. من الضروري أن نوضح كيف ينكمش «البهوات» خلال فترة السبات الشتوي الطويل الذي ينتهي باقتراب موعد الانقلاب الانتخابي الربيعي.. لتزحف هذه الكائنات الريعية الغرائبية من «صالوناتها» لممارسة هوايتها التغريرية المفضلة بعويشة الدريويشة..
صحيح أننا «حفظنا قوالب الغرارة»، لكن هذا لا يمنع من أن خطر الاشتعال لازال قائما، خصوصا حين يستجدي هؤلاء بالبكائيات القومية واللطميات العقائدية لدغدغة مشاعر «سي ابراهيم» و«لالة عيشة».. ولعل المسيرات المستفزة باتجاه ميناء طنجة المتوسط، التي قادها بعض المغيبين ممن اشتروا العجل، تجبرنا على تشديد المراقبة على كل من تسول له نفسه إلقاء شي بريكة.. كما هو معلوم، فأصحاب الولاعات السياسية الأنيقة يملكون رفاهية الرحيل.. بينما سنظل حنا حاصلين..





