
في بلد يتخرج فيه طبيب براتب 7000 درهم سلم 11، ويحصل فيه طبيب اختصاصي تكون سبع سنوات في الطب العام وخمس سنوات في التخصص على 14000 درهم، يعطي رئيس الحكومة موافقته على تعويض قدره سبعة ملايين لأعضاء لجنة ضبط الكهرباء لا أحد يعرف ماذا سيضبطون، ويعطي تعويضا قدره 12900 درهم لكل عضو من أجل حضور اجتماع الجمعية العمومية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي. أما أعضاء مجلس المنافسة فيتقاضون 5700 درهم عن كل اجتماع يحضرونه. فيما المجلس الأعلى للتربية والتكوين يتقاضى أعضاؤه 7142 درهما عن كل اجتماع يحضرونه.
لكن تبقى تعيينات لجنة الكهرباء مثالا صارخا على تحكيم الانتماء الحزبي في عملية الانتقاء، وهذه الواقعة هي نتيجة طبيعية لمنطق الولاءات السياسية التي تحكم عملية توزيع المنافع السياسية على التابعين وتابعي التابعين، وحتى زعماء الأحزاب الذين احتجوا على هذه التعيينات احتجوا على طريقة إجرائها وليس على العملية في حد ذاتها. مما يعني أن ما أغضبهم هو عدم حصول أحزابهم على نصيبها من الكعكة.
وهذه الواقعة ليست معزولة عن واقع تبليص بعض زعماء الأحزاب السياسية لزبنائهم المخلصين في المناصب الحساسة، وهي تحتاج كظاهرة إلى وقفة تأمل حقيقية، وإلى موقف حازم، إذ كلما تم سن قانون يهدف إلى بعث الروح في الحياة السياسية بالمغرب، إلا وعملت بعض القوى السياسية على إفراغه من محتواه، وتحويله إلى بقرة حلوب، تقوم بامتصاص ضرعها إلى أن يجف، لتبحث بعدها عن بزولة ثانية وثالثة.
فعندما نص القانون على تمثيلية النساء في البرلمان والمجالس المنتخبة حرصوا على وضع زوجاتهم وقريباتهم على رأسها، وعندما نص على تمثيلية الشباب وضعوا أبناءهم وأصهارهم، وعندما نص على تمثيلية المحكمة الدستورية انتخبوا شيوخهم المقبلين على التقاعد السياسي في مقاعدها، وعندما تم التنصيص على التعيين في المناصب العليا، وضعوا شروطا على مقاس من يرغبون في تنصيبهم دون غيرهم، وهكذا أفرغت تلك القوانين من مضمونها الإيجابي، وتحولت إلى أدوات للريع السياسي، وإلى عامل من عوامل الفساد الإداري .
فإذا كان قانون المحكمة الدستورية يسمح بانتخاب ثلاثة أعضاء للمحكمة الدستورية من طرف أعضاء مجلس المستشارين وثلاثة أعضاء من طرف مجلس النواب، فإن الأحزاب جعلت هذا الانتخاب صوريا، إذ يقع الاتفاق المسبق على الوزيعة السياسية لكي لا يغضب أي فريق من الآخر، في إطار تبادل الخدمات السياسية في ما بينهم، تكشف عنها تشكيلة الأعضاء الستة الذين يتوزعون على أحزاب العدالة والتنمية، والتجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي بالنسبة لمنتخبي مجلس النواب، والأصالة والمعاصرة والحركة الشعبية وحزب الاستقلال بالنسبة لمنتخبي مجلس المستشارين.
أما آخر صيحات الموضة في عملية التعيينات فقد كانت تلك المتعلقة باختيار أعضاء هيئة ضبط الكهرباء، التي استأثر بالتعيين فيها كل من رئيس الحكومة ورئيسي غرفتي البرلمان، والتي جاءت مخيبة لآمال العديد خصوصًا ممن كانوا ينتظرون نصيبهم من الكعكة، خاصة وأن التعويضات المقررة هذه المرة سمينة جدا، مما أدى إلى تبرؤ أحزاب سياسية من عملية الاختيار تلك، ومطالبتها بمعاودة الضمسة.
ويبدو أن إسناد صلاحية التعيين في المناصب لزعماء سياسيين من شأنه أن يقصي العديد من المواطنين والكفاءات المستقلة من إمكانية الظفر بتلك المناصب، كما أن من شأنه أن يخلق نظاما من الولاءات داخل تلك الأحزاب، بما يساهم في وأد الديمقراطية الداخلية في صفوفها، إن وجدت أصلا ديقراطية بداخلها.
فيكفي أن نطالع الإحصائيات التي تفيدنا بأن ما يزيد عن ألف منصب سام وزعت على منتسبي الأحزاب الممثلة في الحكومة، لكي نتصور حجم الدمار الذي أحدثته هذه التعيينات في بنية الإدارة المغربية، القائمة على الولاءات السياسية بدل الكفاءة، وهو أمر لم يعد قابلا للتغاضي عنه، إلى درجة أن رئيس الحكومة أصدر بلاغا في الموضوع يدافع من خلاله عن اختياره للأعضاء الثلاثة الذين عينهم ضمن هيئة ضبط الكهرباء وحدهم، والذي تضمن اعترافا واضحا بأن اختيار رئيسي غرفتي البرلمان المغربيين سار على النقيض من ذلك.
لكن رئيس حكومتنا وهو يرمي باللائمة على الغير، يتناسى أنه يتحمل المسؤولية الكاملة في تأخر حكومته عن إخراج هاته المؤسسة إلى حيز الوجود في إبانها، وأن اضطراره إلى إخراجها اليوم كان فقط تحت ضغط الزمن الانتخابي، وإلا كيف يفسر لنا سيادته صدور القانون المنظم للهيئة بمقتضى ظهير صادر في 9 يونيو 2016، وصدور ظهير تعيين رئيسها منذ 18 شتنبر 2018، ومرسوم تحديد تعويضات أعضاء الهيئة منذ 13 نونبر 2019، وصدور قرار بنشماش بتعيين أعضاء حزبه بتاريخ 19 دجنبر 2019 وقرار الحبيب المالكي بتعيين أعضاء حزبه بتاريخ 25 دجنبر 2019، ليأتي في الأخير مرسوم العثماني بتعيين الأعضاء الثلاثة بتاريخ 18 مارس 2020، ونشر الموضوع بالجريدة الرسمية لتاريخ 10 غشت 2020.
فأن ينتظر رئيس الحكومة أزيد من أربع سنوات لكي ينزل قانونا بسيطا إلى حيز الوجود، دليل لوحده على أن إخراج هذا القانون لم يأت اليوم إلا تحت ضغط الهواجس الانتخابية التي تحكمه، وأن بلاغه ليس سوى هروب إلى الأمام للظهور بمظهر المحايد الموضوعي، رغم أن الأمر لا يقتضي الحياد.

