تتكرر في العديد من البيوت المغربية مشاهد مؤسفة لنساء عائدات لمنزل الأسرة، يحتضنّ أطفالا بمستقبل مجهول ويحملن شظايا أمل منكسر. نساء مقهورات يعانين مرارة الإهانة والذل والتعنيف اللفظي والجسدي والجنسي. تقرر النساء الهاربات من جحيم بيت الزوجية العودة على مضض إلى حضن الأسرة الكبيرة، وهن على يقين شبه تام بما ينتظرهن من معاملة جافة ورفض قاطع لمجرد الحديث عن الكلمة المحرمة. يحمل كل منا صورة، من الذاكرة البعيدة، لأخت أو ابنة أو عمة أو خالة، وهن «حانيات الراس» وسط المداولات العائلية الصاخبة، بغرض التوصل إلى إقناع الزوجة اللاجئة مع أطفالها بالعودة إلى «العصا والبونية»، أو لمحاولة تضميد كرامة الزوج المتعنت واستجداء عطفه وغفرانه.
في ذاكرة كل منا صورة لتلك الجدة الوقور التي تحرك خيوط المفاوضات المستعجلة بين الأزواج من خلف الكواليس، حيث تحرص الجدة دائما على تقديم تقارير ومقترحات تخدم أجندة الزوج المعنف، مثلا، وتهضم حقوق الزوجة وتقبر مطالبها بالعدل والإنصاف.
يجوز لنا القول إن الجدة تلعب دور العميل المزدوج الذي يدافع عن مصالح جهة على حساب جهة أخرى. تستمر الجدة في سرد محاسن الزوج وتمجيد رجولته وتعظيم قوامته، وتصر على إقناع الزوجة بالصبر على طباع زوجها الحادة، وبالمثابرة على إرضاء نزواته ورغباته، والتحلي بالحكمة والرصانة للحفاظ على لقب الزوجة العظيم. ثم تنتقل الجدة لاستخدام أساليب الترهيب والترغيب، عبر الحديث عن أهمية الذكر في حياة الأنثى، وكيف أن هذه الأخيرة تستمد كرامتها وعزتها وكينونتها من خلال وثيقة إدارية تربط مصيرها بمصير رجل ما. ثم تنتقل الجدة إلى استعمال تقنية التحذير من أهوال الطلاق والعياذ بالله، وما سيجره من مآسي الأرض وعذابات السماء، وما قد يجلبه للزوجة وباقي أفراد الأسرة من وصمات العار الاجتماعي المتمثلة في الثلاثي الشهير: «الشفاية والشوهة والفضيحة فالحومة».
تمارس الجدة جميع أنواع الابتزاز العاطفي لبلوغ هدفها في الجولة الأخيرة من المفاوضات، وهو النجاح في إقناع الزوجة ببرنامج الذل مقابل اللقب. «هادي ماعرفناها واش جدة ولا كوفي عنان». وفي هذا السياق لا نملك إلا أن نتساءل حول السر الذي يدفع الجدات إلى الإصرار على رأب الصدع في علاقة مهترئة آيلة للسقوط على رأس الزوجة وأطفالها؟ هل تمتلك نساء «الزمن الجميل» من الرصانة والحكمة والتجربة الحياتية ما يسمح لهن بمعالجة أعقل للخلافات الزوجية والنزاعات العاطفية؟ هل الرغبة الشديدة للجدات في الحفاظ على بيت الزوجية، بل وتقديسهن لهذا الصرح الأسري، رغبة نابعة من قيم المودة والرحمة والقوامة الحقة، التي عايشنها في الماضي البعيد؟ هل دعوة الجدات لبناتهن وحفيداتهن «بالصبر على الوليدات»، يعود سببها إلى شجاعة ورباطة جأش تلك النسوة، أو أن أسطورة الصبر الأزلي مردها إلى عدم توفر الجدات، آنذاك، على حساب بنكي يتلقين فيه راتبا محترما نهاية كل شهر، يقيهن ذل السؤال ويوفر عليهن جهد لعب دور عنتريات التضحية والصبر؟ يجب التنويه إلى أننا لسنا بصدد محاكمة الأنماط الفكرية أو المعتقدات الثقافية لشريحة اجتماعية معينة، وإنما نحن بصدد إعادة قراءة لدينامية الزواج التقليدي، كثنائية جمعت بين السلطوية والإذعان، واستخدمت عامل القهر ووسائل الاستعباد المالي كمحرك رئيس للعلاقة الزوجية.
ففي عالم يتحكم فيه الرجل، كان لزاما على المرأة، آنذاك، أن تتحايل على واقعها الذكوري الصارم، عبر الاستنجاد بالنص الديني كمسوغ أخلاقي لطاعة الزوج والامتثال لأوامره والامتناع عن نواهيه. في محاولة منها لشرعنة الظلم، ثم العمل على التغاضي عن بقية النصوص الدينية الواضحة والصريحة، التي تدعو إلى انصاف النساء وحفظ حقوقهن. لقد تعاملت المرأة المكبلة بثقل الموروث الثقافي والديني، والمحاصرة بجدران النظام الأبوي، مع مفهوم الزواج بمنطق ميكيافيلي خالص. إذ لمن تشتكي حبة القمح إذا كان الزوج دجاجة.. عفوا «القاضي دجاجة».
لجأت النساء في أزمنة القهر إلى الاحتيال على التهديد المتواصل بغول الطلاق، عن طريق تجنيد أقدم الأسلحة وأشدها فتكا، وهو سلاح الجنس. لقد حصرت المرأة ذاتها في إطار وظائفها العضوية، بغرض استمالة عطف و«صرف» الزوج. لقد كانت الجدة، إذن، «أوسكار وايلدية الهوى»، بتبنيها للعبارة الشهيرة: كل شيء يدور حول الجنس، باستثناء الجنس، فهو يدور حول السلطة». لقد شكلت السجون المالية للنساء فضاء واسعا لابتكار تقنيات تساعدهن على الحفاظ على بيت الزوجية، حيث حرصت المرأة على تفريخ الأطفال سنويا، ثم رفع شعارات الصبر والتضحية والعفو والغفران، والتحلي بأوهام الحكمة والرصانة وسعة الصدر.
تجدر الإشارة إلى أن الحرية المالية التي تتمتع بها المرأة المعاصرة قلبت موازين المعادلة الظالمة، وسمحت للنساء بحق تقرير المصير، دونما الحاجة إلى اللجوء إلى حيل وألاعيب لضمان الاستقرار المادي. ترفع الحفيدة المتعلمة، المستقلة ماديا اليوم، شعار «لي ما فيه نفع غير دفع». فهل يشكل «الصالير» سببا رئيسيا في ارتفاع حالات الطلاق؟ ختاما لابد من تذكير الرجل بأن جدته لم تكن بالضرورة تلك الزوجة القنوع الراضية بشربة ماء وكسرة خبز. فربما الجدة قبلت بشظف العيش وفظاظة القلب، فقط لأنها لم تتوفر على «كارط كيشي».