شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمعن- النسوة

الأم مدرسة

عاش سكان الرباط، خلال الأسابيع الماضية، على وقع المسيرات الاحتجاجية الضخمة، التي أغرقت الشوارع الرئيسية للعاصمة بسيل جارف من حراس محراب العلم الأوفياء. تعود السكان في هذه المدينة الإدارية الجادة على ما يصاحب النضالات الجماهيرية من مظاهر الاكتظاظ في محطات المواصلات العامة، أو ازدحام وعرقلة لحركة السير أو «الصف» لدى أصحاب المطاعم والمقاهي. غير أن نوعا آخر من الحركة غير الاعتيادية سيطر على أحياء العاصمة، خصوصا الفقيرة منها. إنه التواجد اللافت والمزعج أحيانا لجموع من الأطفال والمراهقين الذين وجدوا أنفسهم فجأة، وفي أوج الموسم الدراسي، معطلين عن ممارسة حقهم الإنساني والدستوري الأصيل في التمدرس. فبين دحرجة الكرة فراس الدرب، أو الشجار أمام محل لألعاب “البلايستيشن” أو احتلال عتبات العمارات السكنية، يصارع هؤلاء الصبية الفراغ القاتل الذي خلفه غياب حضن المدرسة العمومية الدافئ.

يقول المثل الإفريقي «إن الأمر يتطلب قرية لتربية طفل واحد». هذا المثل الذي تبنته الثقافة الشعبية الأمريكية، في العقود الأخيرة، لتعبر من خلاله الأمهات حديثات الوضع، مثلا، عن إحساسهن بالإحباط والعجز أمام قوانين العمل المجحفة من جهة، وتفشي الفردانية كأسلوب حياة بين أوساط الأمريكان من جهة أخرى، الأمر الذي يحيلنا على حال الأمهات المغربيات اللواتي يمارسن نوعا آخر من النضال ضد واقع حكومي وتربوي  «مرون».

لقد وجدت الأم المغربية نفسها في قلب الاحتقان الاجتماعي الذي نعيشه اليوم. تلك الأم المنهكة سلفا بالعمل داخل المنزل وخارجه، والتي تقدم صحتها البدنية والنفسية وسلامتها العقلية ثمنا لاستمرارية الأسرة واستقرارها، أصبحت مطالبة اليوم بإضافة مهن أخرى إلى سيرتها الحربية. لقد أصبحت الأم المغربية مناضلة ترفع شعارات قوية في وجه القرارات السياسية العشوائية، وأصبحت وجها مألوفا بل ضروريا في المسيرات الشعبية كنوع من الدعم المعنوي للمحتجين، لينتهي بها المطاف إلى لعب دور المدرس والمربي والمدير والوزير والغفير.

مسؤوليات جسيمة تحكم الخناق على أعناق الأمهات اللواتي يشعرن بالخوف الشديد على مستقبل أبنائهن. من الواضح أن التخبط الحكومي في التعامل مع قضايا مصيرية حاسمة مثل ملف التعليم، سيؤثر سلبا على جميع مناحي الحياة، وأبرزها السلم الاجتماعي متمثلا في الأسرة المغربية. إن معاناة أولياء الأمور، في ظل استمرار تعنت السياسي في قراره وتشبث الأستاذ بحقوقه تنذر باحتمالية تفجر الأوضاع في أي لحظة. فكيف يعقل أن نطالب الأم بأن ترتدي عباءة “السوبرومان”، في كل مرة تخفق فيها القوانين؟ «طاح السياسي علقو النسا». لقد دفعت المرأة المغربية، طيلة عقود من الزمن، ثمن فشل المشرع في إنصافها. إذ عانت أجيال من النساء من ظلم قوانين الأحوال الشخصية، وقوانين الإرث (السلاليات كمثال على ذلك) أو التنزيل الملتبس لمقتضيات الشريعة الإسلامية.. وغيرها من مطبات سياسية وتشريعية دفعت النساء ثمنها غاليا. فبأي حق نطلب من الأمهات اليوم أن يعوضن مكان الأستاذ؟ وهل الأم التي تعمل لساعات متأخرة من الليل، في “الكابلاج” مثلا، تملك من الطاقة النفسية والعقلية أو الجسدية، ما تستطيع به أن تلقن أبناءها درسا في الرياضيات أو الفيزياء؟ هل تملك الأم الأرملة غير المتعلمة، والتي تعيش رفقة أبنائها تحت عتبة الإنسانية، الوسائل المادية لتوفير “الفيبر أوبتيك” حتى تتسنى لأطفالها الدراسة عن بعد؟ هل تملك الأم، التي تعمل مساعدة منزلية في بيوت البخلاء من «المرفحين»، القدرة على مساعدة أبنائها في حل معادلة كيميائية، بعد يوم شاق من العبودية المعاصرة؟ هل تملك الموظفة في السلالم الإدارية الدنيا القدرة على دفع عشرات الآلاف من الدراهم لتقديم أبنائها قربانا على مذبح “البريفي”؟ إن مجرد الحديث عن الأوضاع المزرية للأمهات المغربيات، في ظل هذه الظروف الحرجة، «طلع لي الطونسيو» فما بالك بحال تلك النسوة المجاهدات اللواتي يستحققن كل الدعم والتشجيع والمؤازرة. نتساءل كيف يعجز السياسي عن فهم ماهية النسيج الاجتماعي، وكيف أن المدرسة والأسرة من بين أهم ركائز هذا النسيج؟ كيف يعجز السياسي، بكل ما تسخره له الميزانيات الخيالية من وسائل لوجيستية وتحليلية واستشرافية، عن رؤية الصورة الكبرى لمعنى السلم الاجتماعي؟ وكيف أن أي تهديد أو زعزعة لهذا السلم هو بمثابة تهديد مباشر لجميع مؤسسات الدولة ومقوماتها. إن المحاولات المستمرة لإقبار المدرسة العمومية هي خيانة لمستقبل أجيال من المغاربة.

من الملاحظ أن الأمهات المغربيات، ورغم ظروفهن المعيشية القاهرة، أظهرن وعيا سياسيا وحقوقيا رصينا، من خلال انضمامهن إلى صفوف المدافعين عن حوزة آخر معاقل الكرامة المغربية، بل لمسنا، وبفخر كبير، نضجا وشجاعة في أوساط طلبة العلم الذين ضموا أصواتهم إلى أصوات المحتجين. حيث تمسك هؤلاء الصبية بحقهم في بيئة تعليمية تحفظ كرامة الأستاذ والتلميذ معا.

لقد دخل الإضراب الوطني لنساء ورجال التعليم أسبوعه السادس على التوالي، إذ تتصدر الضبابية والتصعيد المشهد النضالي والسياسي على حد سواء. ففي الوقت الذي تجري فيه النقابات مشاورات ماراثونية مع شركائها الحكوميين، تجري الأم المغربية بـ«صندالة» خلف أبنائها لإجبارهم على حفظ قواعد الإعراب في وطن ليس لفقرائه محل من الإعراب.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى