شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

الترفيه بالأبيض والأسود.. قصص بداية التسجيل بالإذاعة

هل فقدنا أرشيف المسرحيات والأغاني والكليبات لسنوات الستينيات؟

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

 

حدث أن وفدا عربيا، كان في زيارة إلى المغرب سنة 1964، وحدث أن تابعوا مسرحية على أمواج الراديو، وسجلوا إعجابهم الكبير بأداء أمينة رشيد لدور مسرحي، أتقنت فيه مخارج الحروف ونبرة الصوت، ووصل الخبر إلى الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أعطى أمره للاهتمام بالمسرحيات المغربية وتعريبها لتصل إلى الجمهور العربي، مع استثمار مواهب أمينة رشيد ونعيمة المشرقي.

هذا الجيل الذي أسس للعمل الإذاعي في مجال الفن المسرحي والغناء أيضا، رحل دون أن يدون أي مذكرات توثق لهذه المرحلة.

نعيمة سميح التي غادرتنا، قبل أيام فقط، كانت واحدة من الأسماء القليلة التي عاشت في قلب الانتقال الإذاعي والتلفزي المغربي، وحضرت كواليس تسجيل الأغاني الوطنية الخالدة والسهرات الإذاعية، التي فتحت أمامها باب الشهرة على مصراعيه.. فهل دُق آخر مسمار في نعش الذاكرة الجماعية الفنية المغربية؟

 

برحيل جيل نعيمة سميح.. المشرقي والآخرين: هل ضاع أرشيف العمل الإذاعي؟

نعيمة سميح، الصوت الذي حصد الإجماع وارتبط بذاكرة ممتدة عمرها خمسون سنة، ما بين التلفزيون والراديو، خلف رحيلها حزنا في أوساط من واكبوا تطور مهنة الأداء الفني الإذاعي، قبل غزو «الكاسيت» للمجال.

قبلها، رحلت نعيمة المشرقي، قبل أشهر خلت، وقبلها أيضا رحلت، قبل سنوات، أمينة رشيد.

هؤلاء السيدات واكبن جميعا ميلاد العمل الفني الإذاعي والتلفزي. فقد كان الوصول إلى الخشبة لأداء الأغاني، سواء العربية أو المغربية، يقتضي أولا المرور عبر المسرح والمشاركة في المسرحيات بأداء وصلات غنائية تؤهل صاحبها، أو صاحبتها، لاحتراف الغناء.

وهذا الاحتراف لا يكون إلا بأداء الأغاني الوطنية. ملاحم الاستقلال سنة 1956، ثم المسيرة الخضراء سنة 1975، محطتان تمخض عنهما ميلاد أسماء كبرى في الساحة الفنية.

الفراغ الذي تعرفه البرمجة في الراديو المغربي بداية الستينيات، بسبب ضعف الإمكانيات التقنية للإذاعة، فتح المجال لإعداد المسرحيات المطولة باللغة العربية الفصحى. إذ كان مستحيلا أن يشتغل الصحافيون المغاربة وقتها لسد ساعات البث يوميا وعلى المباشر. لذلك بقي المجال مفتوحا، لساعات، أمام الإبداع المسرحي لتشخيص أعمال مسرحية عربية خصوصا، وبثها ليسمعها المغاربة.

هذه المسرحيات يتم تصويرها بكاميرتين، على خشبة مسرح محمد الخامس، وتُبث مباشرة بواسطة سيارة البث المركونة في باحة المسرح.

هذه المسرحيات أدخلت الفن المسرحي إلى بيوت المغاربة ووصلت إلى القرى، حيث كان الأعيان من قواد وباشوات وكبار الفلاحين يتوفرون على أجهزة تلفزيون، وضعوها رهن إشارة المواطنين البسطاء، حيث بدأت تتشكل سهرات في كل مناطق المغرب تقريبا، ويجتمع العشرات كل مساء أمام جهاز التلفزيون لمتابعة ما يعرضه من صور متحركة.

هذه المسرحيات كانت تجد صدى كبيرا بين المغاربة، ومن خلالها تعرفوا على الوجوه المسرحية التي رافقت مسرح الطيب الصديقي، حيث عرضت أعمال بالعربية الفصحى وأخرى بالدارجة المغربية.

أما طريقة عرضها على التلفاز فقد كانت بسيطة جدا، لكنها مرهقة للفريق التقني. إذ كان الممثلون يصعدون إلى خشبة المسرح، ويتولى تقني الصوت زرع الميكروفونات في أماكن مدروسة من المسرح، بينما تتولى كاميرتان تسجيل المسرحية. الأولى تلتقط الممثل الذي يكون مندمجا في الدور، بينما الأخرى تلتقط الواقفين على خشبة المسرح، لكي يكتمل المشهد لدى المتفرجين. ويتولى المخرج من على طاولة «التيلي سينما» الإيطالية، اختيار الكاميرا التي ترسل البث المباشر إلى أجهزة التلفزيون المغربية، وينتقل بين الكاميرتين.

في السنوات ما بين 1963 و1970، كانت مجموعة من الأعمال الإذاعية الخالدة موضوع تشخيص للتلفزيون، لكي يتسنى لمتابعيها مشاهدتها، بدل متابعتها في الماضي بالصوت فقط.

وقد حدثت طرائف كثيرة في هذا الباب.

إذ راج في الرباط أن بعض الممثلين الذين كانوا يشتركون في الأعمال المسرحية، كانوا يجلسون في بعض مقاهي العاصمة، وكان الناس يحجون إلى مركز المدينة، لكي يشاهدوا الوجوه التي تظهر ليلا في التلفزيون وهي تمارس حياتها العادية. وبما أن تعويضات الممثلين وقتها، على عهد الطيب الصديقي الذي يعتبر أحد مؤسسي تجربة المسرح المغربي بعد الاستقلال، كانت هزيلة، فإن الجيل الأول للممثلين الذين أدوا مسرحيات مباشرة على الهواء في التلفزة المغربية، كانوا مضطرين إلى ركوب حافلات النقل العمومي مع الرباطيين، وما إن يتعرف بعضهم على ممثل من الفرقة المسرحية التي تؤثث سهرات التلفزة المغربية بشكل أسبوعي، حتى يتجمع الناس حول الممثل لتحيته.

هذه الأجواء، كما نقلها بعض من عاشوا كواليس الإعداد التقني للعمل الإذاعي، لا بد وأنها مجرد نقطة في بحر من الكواليس والأحداث، وحتى الصراعات، التي بصمت المجال. والقاعدة المغربية حكمت بأن كل ما يقع بين الفنانين المغاربة الأوائل من خلافات وحتى منافسات تبقى حبيسة الصدور، ولم يحدث أن تسرب شيء منها إلى صفحات المذكرات.. فهل رحيل نعيمة سميح مسمار آخر في نعش ذاكرة العمل الإذاعي؟ لا بد أنه كذلك.

 

شهادة مدير الإذاعة تصف أجواء تسجيل الأغاني في زمن النجوم

«لم يكن من السهل التعامل مع أسرة الفن بمقاييس إدارية، فالفنان يبقى فنانا، ولو كان موظفا عموميا، وعلاقته برؤسائه، بمن فيهم المدير، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون كعلاقة موظف «عادي» برؤسائه، ذلك أن حساسيتهم المفرطة ومكانتهم الاعتبارية في المجتمع، ورصيدهم الفني، يجعل منهم موظفين فوق العادة، وبالتالي فهم ينتظرون من الجميع أن يعاملوهم معاملة متميزة، فهم موظفون، لكنهم واقعيا فنانون مبدعون. على هذا الأساس بنيت تعاملي مع الفنانين الموظفين، مطربين وموسيقيين وملحنين وممثلين، ولم تنحصر علاقتي مع الفنانين في الفئة المنتسبة للإذاعة فحسب، بل شملت كذلك الفنانين الذين لا تربطهم أية علاقة إدارية بالإذاعة.

أود هنا أن أتحدث عما كان يعرف بـ«النوبة»، أي فرصة التسجيل مع أحد الأجواق التابعة للإذاعة. فقد جرت العادة أن تضع مصلحة الموسيقى لائحة بطلبات التعامل التي ترد عليها من طرف الملحنين، موظفين وغير موظفين. هذه اللائحة كانت محط انتقادات لا تنتهي، من قبل الملحنين والمطربين، فكل أيام السنة لم تكن تكفي لاستيعاب الكم الهائل من الفنانين، الذين زخرت بهم الساحة الفنية، التي كانت تضم 248 ملحنا، ضمنهم ثلاث نساء، و412 شاعرا وكاتبا للكلمات، بينهم سبع سيدات، و169 مغنية و167 مغنيا. هذه الإحصائيات التي تهم سنة 1998، تشمل فقط الفنانين الذين كانوا يتعاملون بصفة أو بأخرى مع الإذاعة والتلفزة المغربية.

كنت أجد صعوبة في لعب دور الحكم، وأنا أستقبل فنانا يشتكي حرمانه من فرصته في تسجيل قطعته الغنائية، أي الحصول على حقه في «النوبة»، فالمهمة لم تكن سهلة، خاصة إذا ما شرع الفنان المعني في التحدث عن الزبونية والمحسوبية، دون الإتيان بأي دليل مادي يعزز أقواله. فهذا يلمح إلى العلاقات المشبوهة بين مسؤولي مصلحة الموسيقى والملحن الفلاني، وآخر يشير بأصابع الاتهام إلى عضو في لجنة الكلمات، أو في لجنة الألحان.

كانت مصلحة الموسيقى تضع لائحة «النوبة» بشكل تراتبي، حسب الطلبات التي ترد عليها من الملحنين، وليس من المغنين أو الشعراء. رغم أن هذا الأمر يبدو واضحا، إلا أن دخول المطرب أو كاتب الكلمات على الخط، كان يربك حسابات مصلحة الموسيقى، سيما إذا تعلق الأمر بفنان من العيار الثقيل، ويضع المسؤول عنها في حالة من الإحراج الشديد، وكثيرا ما وضعت في مأزق بسبب تدخلات شخصيات نافذة، لها وضع اعتباري في هرم الدولة، لصالح مطربة أو مغن أو ملحن».

هذه الشهادة مقتطفة من مذكرات عبد الرحمن عاشور، مدير الإذاعة المغربية السابق، والتي صدرت سنة 2018، ووثق فيها لمرحلة عمله مديرا للإذاعة في زمن إدريس البصري ما بين سنتي 1986 و2003.

السيد عاشور كان رجل سلطة، موظفا في وزارة الداخلية، ومنها جاء ليترأس الإذاعة المغربية، في إطار هيمنة الوزارة على الإعلام.

ويذكر عاشور في مذكراته بعضا من الكواليس التي الأخرى التي تتعلق بطبيعة عمله، واحتكاكه مع الفنانين المغاربة الذين حققوا النجومية عربيا، وليس داخل المغرب فقط، من أمثال نعيمة سميح ولطيفة رأفت ورجاء بلمليح وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وآخرين.. فقد كان تسجيل الأغاني أو بثها على الراديو، تسبقه معارك في الكواليس، لم يكن تردد صداها يظهر على السطح.

 

 

 

فرق مسرحية مغربية منسية قبل 75 سنة

جدير بالذكر أن الجيل الأول لرواد الأغنية المغربية، انطلقوا من المسرح وليس من الغناء، وهذا ينطبق على أغلب الأسماء التي أسست للأغنية المغربية. فقد كانت البداية بأداء أدوار مسرحية، قبل الاستقلال، تتضمن مقاطع غنائية تولى بعض الممثلين والممثلات أداءها ليكتشف الجمهور مواهبهم في الغناء، ومن هناك اعتزلوا التمثيل، و«ركزوا» على أداء الأغاني العربية، ثم المغربية لاحقا.

وخير مثال على هذه الحالات، تكوين فرقة «ناس الغيوان» الشهيرة، والتي انطلق أغلب أعضائها من مجال المسرح، مع الطيب الصديقي، حيث دأب عمر السيد على أداء مقاطع غنائية في أعمال مسرحية، شأنه شأن العربي باطمة وبوجميع، قبل أن يتفرغ الثلاثي للغناء وتأسيس تجربة «ناس الغيوان»، التي تُعد لوحدها محطة من محطات المشهد الثقافي والفني المغربي.

لكن قبل هذا السياق بعقدين من الزمن، وبالضبط خلال مرحلة الحماية الفرنسية، كان العمل المسرحي محفوفا بالمخاطر.

الصحافي والدبلوماسي محمد التازي أحد أوائل من وثقوا، إن لم يكن الأول على الإطلاق، لتأسيس المسرح المغربي. فقد كان صحافيا في جريدة «العَلم» مع بداية الخمسينيات، وكان قد ولج الصحافة من بوابة الأدب، بعد أن ألف مسرحيات وقصصا قصيرة نُشرت في دوريات وملاحق أنشأتها الحركة الوطنية.

في جزء من مذكراته، يتناول فترة تأسيس فرقة مسرحية، مُنع إنتاجها من العرض لاحتوائه على رسائل وطنية، وحصلت الفرقة على دعم معنوي من ولي العهد وقتها، الأمير مولاي الحسن.

يقول محمد التازي في شهادته: «في عام 1950، اقترح أحد أعضاء المجلس الوزاري على فرقة المنار المسرحية، وكنتُ مديرها، أن نتصل بسمو ولي العهد ليترأس إحدى حفلات الفرقة، بعد أن أصبحت لها مكانتها لدى المواطنين. واستدعى نجاحها اهتمام مراسلي الصحف الأجنبية في المغرب فكتبت عنها جريدة «لوفيغارو»، وجريدة «فرانس سوار»، ونشرت صور بعض الممثلات والممثلين، منهم ربيعة بن عبد الله، وحمادي عمور، وأحمد العبدي. وبرغم إعجابنا بالفكرة، وحماسنا لها، استبعدنا تحقيقها لعدة أسباب.

أولا: إن أحدا منا لا يعرف سمو ولي العهد المعرفة التي تتيح له الاتصال به.

ثانيا: لا نذكر أن سموه ترأس من قبل سهرة مسرحية.

ثالثا: من سيوصلنا إلى سموه؟

وأوشكنا أن ننحي من تفكيرنا كل مسعى لتحقيق هذه الأمنية، خاصة وأن الظروف السياسية إذ ذاك كانت متوترة بين القصر الملكي والإقامة العامة، وكان الجو مشحونا بالمؤامرات، ثم قررنا أن نحاول، وأرشدنا الأستاذ أحمد زياد، وكان لا يتخلف عن حضور اجتماعاتنا الأسبوعية، إلى الأستاذ عبد السلام بنعبد الجليل، مدير مدرسة الأميرة للاعائشة، وبعد ثلاثة أيام من الاتصال بالسيد بنعبد الجليل، حدد لي سمو الأمير ولي العهد موعد المقابلة في مقره بالسويسي، رحب بي سمو الأمير في لطف وبشاشة، أبعدت كل ما كنت أشعر به من هيبة واضطراب، وأخذت أجيب عن أسئلة سموه عن الفرقة وأعضائها وعن المسرحيات التي قدمتها، وقال:

لا أحب أن أترأس حفلة مسرحية مرتجلة، إن المسرح علم له أصوله وقواعده، والتشجيع معناه مساعدة الأعمال الناجحة، أما مساعدة الأعمال الفاشلة فهو تشجيع للفشل، وقضاء على النجاح. لقد حدثوني عن نجاح محاولاتكم، فإذا لم تكونوا واثقين من أنفسكم فلا تحرجوني، فأكدت لسموه أننا سنكون عند حسن ظنه بمشيئة الله. وشرعنا في الإعداد للحفلة في سينما «روايال» بالرباط، ونفدت جميع التذاكر قبل تاريخ الحفل بأسبوع. وفي يوم الافتتاح فوجئنا برسالة من الإقامة الفرنسية تخبرنا أنها منعت الحفلة، وكنا أخذنا موافقتها مكتوبة قبل ذلك، وجاءنا مولاي سلامة بن زيدان، رئيس الكتابة الخاصة لسموه، وأبلغنا أسف سموه على إلغاء الحفلة، واعدا بالحضور في المستقبل، دون الإعلان عن ذلك من قبل، كي تفاجأ الإقامة الفرنسية العامة، وما علينا إلا أن نخبر سموه بتاريخ الحفلة. ولقد أنسانا هذا العطف والاهتمام والتشجيع كل ما لاقيناه من عنت، وما صادفنا من عقبات».

حدث هذا قبل أن يُوفر الراديو فرصة لإنتاج الأعمال الإذاعية، في السنوات الأولى التي تلت الاستقلال، ويحقق ثورة ثقافية حقيقية في المغرب، بدأت مع عدد من الأسماء.

 

 

وفد عربي رفيع سجل للملك إعجابا بأداء أمينة رشيد في مسرحية عربية على الراديو

عندما توفي أحمد الطيب العلج نهاية سنة 2012، توارى مسار كامل من التأسيس للتمثيل الإذاعي. فقد كان العلج أحد أوائل من كتبوا للإذاعة، وأكثر الأسماء طلبا في مجال إعداد التمثيليات الإذاعية، التي حصدت متابعة المستمعين في عموم التراب المغربي.

من خصائص تلك الفترة، أن الأمر لم يكن يتعلق بطلبات عروض، أو شركات مناولة تتولى تنفيذ إنتاج مثل هذه التمثيليات الإذاعية، بل كان الأمر يشبه «عملا تطوعيا»، أو «مهمة وطنية».

حتى أن أحد المصادر الذي تحدث إلى «الأخبار»، يؤكد أن الطيب العلج قضى فترة يعاني من تعقيدات الإدارة، للحصول على تعويضات متأخرة عن مسرحيات كتبها للإذاعة، قبل أزيد من 45 سنة، ولم يحصل عليها، إلا بعد تدخل من مسؤولين كبار لإنصافه من «بيروقراطية» الإدارة. وعلى هزالة تلك التعويضات، كان العمل الإذاعي، يضيف المصدر، بجودة عالية من حيث اللغة والأداء وأصالة القصة وخدمتها للتراث والثقافة المغربية الأصيلة، وهي خصال لا تصل إليها أغلب الأعمال التي تصرف عليها ملايين الدراهم.

الطيب الصديقي، الذي يلقب بأب المسرح المغربي، كان أحد الذين أسسوا للعمل الإذاعي الترفيهي منذ ستينيات القرن الماضي، وحتى قبل تأسيس أشهر الفرق المسرحية التي ارتبط اسمها بالصديقي، أو بمن تتلمذوا على يديه.

وسجل اهتمام كبير من الملك الراحل محمد الخامس بالتمثيليات الإذاعية، حتى أنه طلب أكثر من مرة أن تُؤدى في حضرته، في سهرات خاصة داخل القصر الملكي، من تلك الأمسيات التي تنظم في الأعياد الدينية والمناسبات العائلية، بعد أن سمعها على أمواج الإذاعة.

وهذا التطور، جعل الجيل الأول من الممثلين المغاربة يدلفون إلى القصر الملكي من بوابة الإذاعة، التي فتحت لهم فرصة أداء التمثيليات أمام الجمهور.

ما ميز التمثيليات الأولى أنها لم تكن مغربية خالصة، بل كان بعضها مسرحيات عربية، بحكم وفرة النصوص المسرحية العربية، خصوصا القادمة من مصر وسوريا ولبنان، حيث تولى المغاربة تشخيصها وتوزيع أدوارها على ممثلين وممثلات مغربيات، مثل أمينة رشيد ونعيمة المشرقي.

الممثل عبد القادر مطاع دخل أبواب التمثيل من باب الإذاعة، فقد كان بدوره أحد أوائل الأسماء المغربية التي أدت المسرحيات الإذاعية على الأثير، وأسندت إليه أدوار أحبها المستمعون، سيما دور الشاب ابن المدينة القديمة الذي يناضل من أجل تأسيس أسرة في مغرب الاستقلال.

أما المسرحيات العربية، فقد وصل صدى أدائها بأصوات المغاربة إلى الشرق، وحصد الممثلون المغاربة الإعجاب، رغم أن التجربة لم تُعمر طويلا، ولم يُكتب لها أن تتطور لتحظى بنصيبها من العرض أمام الجمهور العربي العريض.

وقد حدث أن وفدا عربيا كان في زيارة إلى المغرب سنة 1964، وحدث أن تابعوا مسرحية على أمواج الراديو، وسجلوا إعجابهم الكبير بأداء أمينة رشيد لدور مسرحي، أتقنت فيه مخارج الحروف ونبرة الصوت، ووصل الخبر إلى الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أعطى أمره للاهتمام بالمسرحيات المغربية وتعريبها لتصل إلى الجمهور العربي، مع استثمار مواهب أمينة رشيد ونعيمة المشرقي.

 

 

عندما عُرف النجوم بأصواتهم وبقيت وجوههم مجهولة

يبقى الحسين السلاوي أحد أوائل الأصوات المغربية التي حصدت الشهرة بفضل الأسطوانات، بحكم أن أغانيه لم تكن تجد طريقها إلى الراديو، خصوصا في فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات.

ولولا صورته التي طُبعت أول مرة على ظهر أسطوانة سجلت في فرنسا، لما تعرف الجمهور على وجهه، رغم أن صوته حُفر في الذاكرة الجماعية.

وليس السلاوي سوى مثال فقط، على ما قاساه جيل كامل من الرواد المغاربة الذين أسسوا لبداية انتشار الأغنية المغربية، أو الغربية بصوت مغربي، في الإذاعة، ثم في التلفزيون. فقد كانت هناك أسماء أخرى جرى تهميشها، بسبب الحسابات السياسية، ولم تنل ما تستحق من اهتمام لكي تؤدي مقاطع على أمواج الإذاعة.

والسبب، بحسب عدد من المصادر، كان هيمنة تيار بعينه على الولوج إلى استوديو التسجيل، خصوصا تيار حزب الاستقلال الذي كان في الأغلبية الحكومية ما بين 1956 و1960.

ومع بداية مرحلة الملك الراحل الحسن الثاني، سنة 1961، كان تيار أحمد رضا اكديرة هو المهيمن. ولم يكن قدماء الإذاعة يُنكرون أن تعزيز فرص الأداء في الإذاعة المغربية، يقتضي المرور من دار الوزير اكديرة الذي كان مديرا لديوان ولي العهد الأمير مولاي الحسن، ثم أصبح وزيرا فوق العادة، قبل أن يصبح مستشارا ملكيا.

لكن لماذا يهتم رجل مثل اكديرة بالمسرح والإذاعة، وهو الذي انشغل بمسار آخر في المحاماة، قبل أن يدخل السياسة من بوابة الصداقة مع ولي العهد؟

الذين يعرفون اكديرة، يُدركون مكانة المسرح في حياته، فقد بدأ مساره شابا في فرقة مسرحية بسلا، وكان يقضي الساعات في التدريب على المسرحيات في إحدى الضيعات المعزولة نواحي مدينة القنيطرة، قبل أن يتفرغ للسياسة، ويمارس «مسرحا» من نوع آخر، خصوصا خلال الستينيات التي ودع فيها الوزارة.

في هذه الأجواء، كان جيل نعيمة سميح، الذي بدأ أداء المقاطع الغنائية في استوديو الإذاعة، يعيش على وطأة هيمنة بعض المسؤولين المعروفين بقربهم من اكديرة. ولم يكن مسموحا لأي كان، مهما كانت موهبته، بالمرور على الهواء بدون إذن من هؤلاء المسؤولين.

لكن بعض هؤلاء الفنانين الأوائل تغلبوا على هيمنة تيار اكديرة، بعد أن أصبحت أسماؤهم مطلوبة لإحياء الحفلات الخاصة والأعياد الوطنية، التي كان يحضرها الملك الراحل الحسن الثاني، أو تُنظم داخل القصر الملكي.

وأمام استدعاء الملك لهذه الأسماء، وكانت نعيمة سميح من بينها، لم يكن المسؤولون يجدون بدا من إدراج أصواتهم على أثير الإذاعة بشكل منتظم.

 

 

 

 

 

أحمد الغرباوي.. الصوت الذي دفن معه أهم مذكرات عن كواليس التسجيل الإذاعي

عندما توفي أحمد الغرباوي سنة 2009، دُفن معه أهم مشروع لإعادة كتابة تاريخ الأغنية المغربية، وظروف تسجيل أوائل الأغاني، أو بثها على الراديو بعد 1956. وبرحيله، فقد المغرب ذاكرة حية عاشت في قلب عواصف وتقلبات تاريخ الفن والتسجيل الإذاعي المغربي.

الغرباوي، بعد أن بدأ مساره الفني في الخمسينيات عقب دراسته للموسيقى، مر من «الجوق الوطني»، والذي كان وقتها طريقا نحو النجومية الحقيقية، وهكذا كان الغرباوي واحدا من الذين أنجبهم الجوق الوطني، وفي الوقت نفسه، كان طريقا أيضا نحو دخول القصر الملكي.

بدأت علاقة أحمد الغرباوي بالملك الراحل الحسن الثاني، عندما بدأت أغانيه في الانتشار في الراديو، ولاحقا، عرفه «صانعا» ومؤديا أيضا لأغان كتبها بنفسه، أو أخرى كتبها لغيره من الفنانين الذين كانوا دائمي الحضور في الحفلات الخاصة والوطنية أيضا، أمثال عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط ولطيفة رأفت وسميرة سعيد وأسماء أخرى كثيرة، جايلت أحمد الغرباوي، أو استأنست في بداياتها بوجوده في الساحة الفنية.

مع المشارقة، كانت الصداقة بين أحمد الغرباوي وعبد الحليم حافظ محط اهتمام الجلسات الخاصة، التي كانت تُعقد في الرباط. الكل كانوا يتحدثون عن تقدير كبير للغرباوي من عبد الحليم حافظ، الذي كان خلال سنوات السبعينيات في كامل ألقه وقمة نجوميته، وهكذا كانت بعض «الغيرة» تجد طريقا إلى نفوس بعض منافسي الغرباوي، ليتحدثوا عن خصوصية العلاقة التي جمعته بعبد الحليم حافظ، وما كان ممكنا أن تفتحه له من آفاق فنية يصل بها إلى الدول العربية.

كانت الأقاويل تروج في كل مكان في الرباط، إلى أن وصلت إلى أذن الملك الحسن الثاني شخصيا، فقد بلغه أن أحمد الغرباوي كان يجلس مع عبد الحليم حافظ في جلسة خاصة، وعبّر له عن غيرته من التقدير الكبير الذي يوليه له الملك الحسن الثاني، كلما زار المغرب لإحياء حفل ما. وقيل وقتها إن الغرباوي قال لعبد الحليم حافظ ممازحا إنه سيفرغ خزينة الدولة، من كثرة المكافآت والهدايا التي حصل عليها من الملك الحسن الثاني.

عندما وصل الخبر إلى الملك الحسن الثاني، ركز على أن يصحح الأمر للغرباوي، رغم أن بعض المصادر تقول إن الغرباوي لم يتفوه بالأمر أصلا، ولم يقل أي شيء بهذا الخصوص. وفي أول فرصة التقى فيها أحمد الغرباوي بالملك الحسن الثاني، أخبره فيها مباشرة بأنه يمنح الهدايا من ماله الخاص، ردا على ما وصل إلى سمعه من أقوال نُسبت لأحمد الغرباوي. وكان الأمر بمثابة حديث ثنائي دار بين الملك الحسن الثاني وأحمد الغرباوي، لكن الذين بلغوا الوشاية إلى القصر، كانوا مهتمين كثيرا بأمر استقبال الملك لأحمد الغرباوي.. ربما كانوا ينتظرون توبيخه، أو ربما حتى إبعاده عن القصر الملكي، في إطار غضبة ملكية، خصوصا وأن سنوات الستينيات والسبعينيات كانت شاهدة على عمليات إبعاد كثيرة عن أجواء القصور، بسبب الغضبات الملكية. لكن كل ذلك لم يقع، ومرت السحابة بسلام وبقي أحمد الغرباوي إلى آخر أيام حياته، يحفظ ذكريات كثيرة جمعته بالملك الحسن الثاني، لكن أبرزها، تلك التي همس له بها في أذنه عتابا على شيء لم يقله ربما.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى