
أمين الريحاني (1876-1940) كاتب ورحالة لبناني قام بعدة رحلات إلى البلدان العربية وألف في ذلك كتبا مهمة من بينها “ملوك العرب” و”قلب العراق” و”قلب لبنان” وآخر رحلاته “المغرب الأقصى”.
كانت رحلة الريحاني إلى المغرب وشماله على الخصوص إبان الحماية الإسبانية غنية بالمعلومات التي استقاها الكاتب من مصادرها وبشكل مباشر من مسؤولين مغاربة وإسبان، ومعطيات مدققة عن الكثير من الجوانب الاقتصادية والسياسية والتعليمية مشفوعة احيانا بإحصائيات ومراجع محددة. تشكل رحلة الريحاني وثيقة مهمة عن المنطقة الشمالية خلال فترة دقيقة من تاريخ المغرب والعالم قبيل الحرب العالمية الثانية بقليل.
غير أن هناك جانبا آخر لهذه الرحلة يكمن في الحب الجارف لأمين الريحاني للمغرب عبر عنه مرات عديدة كقوله: “كانت رغبتي بزيارة المغرب شديدة وحادة، فنفذت إلى أقصى نواحي النفس، وصارت تحن كقلب العاشق إلى ذلك البلد العربي الذي دعاه أجدادنا بالمغرب الأقصى”. أو عبارة أشبه بالحكمة في فهم أعماق المغرب: “في المغرب طبخة يُسمونها الحَريرة، هي شبيهة بالحساء، تشمل على الكثير من أنواع اللحم والخضر… فيرسب الأكبر في قعرها. فلا تحظى أنتَ به إلا بعد أنْ تصل في احتسائك إلى القعر”.
تطوان.. المدينة البيضاء
زار أمين الريحاني في آخر رحلاته شمال المغرب وبالتحديد مدينة تطوان التي غيرت تماما صورته عن المغرب، يقول: “جئتُ المغرب وفي الذهن صورة لمدنه وقراه لا تختلف عما كنتُ أشاهده في اليمن وفي نجد، هي صورة بسيطة ذات خطوط قليلة، وأشعة تخفي ما في الظلال من إشارات لكرامة وادعة، وآيات بالفقر صادعة. فلما أطللت على تطوان المنبسطة في عرض الجبل، المشرفة على واد مرتين (مارتيل) ونهره، عرتني دهشة سرور وإعجاب”. ثم يذكر بعدها دخوله إلى المدينة ووصفه لها: “… فلقد اتفق أن وصلنا إلى تطوان في اليوم الثاني من عيد المولد النبوي… وهذه الجموع من أتقياء المسلمين، في الأثواب البيضاء الناصعة البياض، خرجت من المدينة للاحتفال بالعيد في المروج والبساتين. رأيتُ بين النساء من هن محجبات، ومن هن سافرات، وقد حملت السافرات على رؤوسهن قبعات القش الفضفاضة كالمظلات، فالمحجبات هن من المدينة، وأخواتهن من السافرات… من القبائل.
هو الشعب المغربي، وقد اختلط بَدوه بحضَرِهِ، وكلهم في بهجة العيد، ولا أثر للبهجة في الوجوه. يمشون ساكنين قانتين، كأن على رؤوسهن طيور الجنة… أما أنهم في تجمهرهم متمدنون أكثر ممن يظنون أنهم شعب المدنية المختار، كالأمريكيين مثلا أو الأرلنديين المتدافعين المتصاخبين في الاجتماعات. فهذه السكينة السائدة في سيرهم أو تلك التؤدة المرافقة لصفوفهم، تشهد بذلك شهادة صادقة عادلة.
هي مدينة، مدينة كبيرة، مدينة عامرة، هي مدينة مغربية تلبسُ بيوتها البرانس البيض مثل أهلها. هي المدينة البيضاء. وها هو ذا إلى اليسار صرْحٌ آخر أبيض جميل، صرْحٌ منمنمٌ أندلسي عربي، هو المحطة الكبرى لخُطيْطات سكة الحديد. وها هي ذي إلى اليمين الحديقة العامة، وقد تدلتْ من جدرانها العرائش الزاهرة بما يزري بألوان الشمس الغاربة”.
شفشاون.. ظلال على الأفق المشرق
“… وهاك شفشاون مجموعة ظلال على الأفق المشرق… دنونا من البساتين، وقد نورت أشجارها، وفاح طيبها، وعدنا إلى الصروح، الصروح البيضاء المتوجة بتيجان الحصون، الحاملة خارجا وداخلا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية شكلا ومعنى –جمعا وتفصيلا- في النقش والتلوين، وقلِ التلحين، وقلِ الغناء، وإن أجمل الألحان لفي هذا الزخرف وهذه الألوان.
خرجنا من النزل نمشي إلى الساحة الكبرى، فإذا هي تغص بالناس من المدينة والمداشر المجاورة إليها. هو يوم السوق التي تقام فيها كل أسبوع فتحتلها النساء والرجال للمتاجرة، فتتربع المرأة على الأرض، ويجلس الرجل القرفصاء إلى جانب ما هو معروض للبيع من البقول والثمار والحبوب… سوق عامرة من بدو وحضر، وبما تناثر فيها على الأرض للبيع والشراء، فتتم الصفقات، وهذا ما أدهشني باليسير من الكلام بالصوت الخافت. لا صياح، ولا ضوضاء، ولا ازدحام. قوم متمدنون، يجلسون على الأرض ويتاجرون، فمن هم يا ترى؟ هل هم العرب؟ هل هم البربر؟ هل هم الجنسين وقد تخالطا وتشابها… إنهم لبيض الوجوه، يغلب على النساء الحسن، وفي الرجال الهيبة وشدة البأس.
وهذه اللهجة العربية لهجتهم قد أدهشتني، فأثارت بي كوامن الذكرى، لأنها أليفة الأذن بسرعتها ووقفاتها، وبما فيها من نحت وإدماج وتسكين لا يجيزه أحد من اللغويين: (حياكله) حياك الله، (لباسْعْليك) لا بأس عليك !”.
أما عن الصناعات المغربية فيدلي بشهادة مهمة: “… أما أولى الصناعات المغربية التي اشتهر المغرب بها، فهي صناعة الجلد وما يتصل بها من فن التجميل نقشا وتذهيبا. إنها الصناعة التي لا يزال المغرب عَلَمها، ويحرز جوائز معارضها. فلا يُبز فيها ولا يُبارى. وإن محفظة للأوراق من الجلد المغربي اللين كالدمقس المذهب أو المفضض في نقشه البارز، لتحفة من التحف التي يفاخر بها حتى في عواصم الفن والجمال بأوروبا”.