
يونس جنوحي
نافذة: عندما حل الغداء، كنت حاضرا مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وكان وزير الداخلية إدريس المحمدي، وأيضا الغزاوي مدير الأمن، بالإضافة إلى الحسن اليوسي وزير الداخلية، وأحمد رضا اكديرة حاضرين جميعا لتناول طعام الغداء.
وأذكر أن إدريس المْحمدي قال لجلالة الملك محمد الخامس إن الإسبان غادروا هذه المنطقة وتركوها كما وجدوها تماما، في إشارة إلى أن المنطقة لم تعرف أي تنمية
واقعة اختطاف المقاوم «الكندري»
من بين المقاومين الذين طالهم الاختطاف، المقاوم «الكندري»، وهو أحد الأصدقاء الذين أعتز بهم. ينحدر من منطقة «إيموزار» وطاله الاختطاف في سياق أحداث 1956 و1959.
تكررت محاولات اختطافه وتعذيبه إلى درجة أن بعض الإخوان طلبوا مني أن أقترح موضوعه على ولي العهد ليتدخل لإنهاء معاناته. وعندما لاحظنا اختفاءه، مرة أخرى، أثرنا فعلا الموضوع عند ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وكان في مكتبه، رحمه الله، ولم يتردد في التوجه صوب جهاز الهاتف، وأجرى اتصالا هاتفيا وأمر على مسمعنا بإيجاد المقاوم «الكندري» وتحديد المكان الذي اختُطف فيه، وإطلاق سراحه على الفور.
وهو ما كان فعلا، فما هي إلا ساعات حتى عاد إلينا المقاوم الكندري ولم يُختطف أبدا بعد تلك الواقعة.
ومن عجائب الصدف في الحياة أن هذا المقاوم ربطته علاقة خاصة مع الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا في ما بعدُ، وقرّبه منه وعهد إليه بمهمة تموين القصر الملكي، في فترة من الفترات، بالخُضر والفواكه. وتحسنت أحواله وبقي على اتصال بمجموعة من المقاومين، كنتُ من بينهم، وكان بين الفينة والأخرى يزورني وبقينا على اتصال إلى أن توفي رحمه الله.
لكن إخوانا آخرين لم يعرفوا المصير نفسه. وإذا كان بعضنا محظوظا لأنه نجا من «مطحنة» الأحداث في ذلك الوقت، فإن آخرين لم يكونوا كذلك. فقد كان مصير عدد من إخواننا الاختطاف، بينما وُجهت للآخرين تهمة الوقوف وراء اغتيال أصدقائهم، وهي تهم كلها ملفقة كان الغرض منها تشتيت ما تبقى من المقاومين من طرف أناس لا علاقة لهم لا بالمقاومة ولا بالحزب.
في خضم هذه الأحداث المؤلمة، بالضبط سنة 1959، طلبتُ من ولي العهد أن ينقلني لأشتغل في ثكنة عسكرية وأبتعد عن تلك الأجواء المشحونة.
كنتُ صريحا مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن رحمه الله. فقد أحس أنني كنت أخفي عنه شيئا، وصارحته بالقول إنني إن بقيتُ مع سموه لا بد أن يُوجهوا إليّ تهمة التخطيط لإيذائه أو إيذاء محيطه.. لكن سموه طلب مني أن أؤجل الموضوع قليلا وأطعتُ أمره.
كنتُ أرى كيف تم اغتيال عباس المساعدي، رحمه الله، في سنة 1956، وكيف تفرق دمه بين القبائل ولم يُعرف تحديدا من وراء التنفيذ، وكيف اغتيل رفاق آخرون لنا، وأدركتُ أن إمكانية التخلص مني واردة أيضا، خصوصا بعد اغتيال المقاوم الدكالي.
وفي ظل هذا الواقع، الذي كان يعيشه المقاومون، وجدتُ نفسي مرات كثيرة أصاب بالإحراج عندما أزور تطوان، إما مع ولي العهد أو في إطار المهام التي كلفني بها رحمه الله. فقد كنت ألتقي المقاومين وأرى عن قرب وضعيتهم والتهميش الذي طالهم. وأحد هؤلاء الذين كنت قد التقيتهم، هو المقاوم «أحمد الله أكبر»، الذي لعب دورا كبيرا في تزويدي بالمعلومات في تطوان واستفدتُ منه كثيرا في مهامي في الاستعلامات. وهذا الأخير زار مرة الرباط، واستضفته، وعبّر لي عن هشاشة الوضع الذي يعيشه المقاومون في الشمال، وكيف أنهم هُمشوا كُليا. واستنكر كيف أن المقاومين التطوانيين لم تُطلق أسماؤهم على الشوارع، ولم يحظوا بأي نصيب من التكريم بعد الاستقلال رغم أنهم بذلوا تضحيات جساما وضحوا بأرواحهم من أجل الاستقلال.. وكان رحمه الله على حق، للأسف.
زيارة محمد الخامس التاريخية إلى تطوان
في بعض الزيارات الرسمية، التي كنت أرافق فيها ولي العهد الأمير مولاي الحسن، كان يحضر معه كل من وزير الداخلية، إدريس المحمدي، ومدير الأمن محمد الغزاوي، وصديقه أحمد رضا اكديرة قبل أن يصبح وزيرا ثم مستشارا لجلالة الملك الحسن الثاني.
لكن أكثر الزيارات أهمية إلى تطوان، بل أهمها على الإطلاق، تلك التي حلّ فيها جلالة الملك الراحل محمد الخامس، رفقة ولي العهد الأمير مولاي الحسن يوم 9 أبريل 1956 بين سكان الشمال. وبُرمج توقيتها تخليدا لذكرى زيارة 9 أبريل 1949 التاريخية إلى طنجة، والتي كانت محطة تاريخية هامة في الكفاح من أجل استقلال وتوحيد المغرب أيام الحماية.
بدأت رحلة الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن أولا إلى إسبانيا، حيث التقيا هناك بأعضاء الحكومة الإسبانية لإنهاء ترتيبات تسليم المنطقة إلى المغرب وأُعد استقبال رسمي لجلالته. ومن مطار مدينة إشبيلية انتقل جلالته مع ولي العهد إلى تطوان لإلقاء خطاب بالمناسبة.
لعب سي عبد الخالق الطريس دورا كبيرا في التحضير لهذه الزيارة، وإعداد اللافتات لاستقبال الملك محمد الخامس وولي العهد. وكان معه الطيب بنونة، الذي كان أول عامل لتطوان بعد الاستقلال.
كانت الزيارة إعلانا عن توحيد شمال المغرب وتسلّم الأقاليم الشمالية من السلطات الإسبانية. وجاءت هذه الزيارة بعد أقل من شهرين على توقيع الاستقلال مع فرنسا.
في هذه الزيارة التاريخية، حج سكان الشمال إلى محيط القصر الذي كان يقيم فيه الخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي، ليتابعوا الخطاب المباشر الذي ألقاه المغفور له الملك الراحل محمد الخامس من شرفة هذا القصر، والذي زف فيه إلى المغاربة خبر توحيد شمال المغرب وتسلمه رسميا من إسبانيا.
حج سكان المنطقة من كل صوب، وسُجل حضور كبير، إلى درجة أن الساحة أمام القصر لم تسع الحضور، وكتبت الصحافة في اليوم الموالي عن مدى الحشود التي تقاطرت على تطوان لمتابعة الخطاب التاريخي. حتى أن موكب المغفور له محمد الخامس، من مطار تطوان إلى القصر، استغرق قرابة ساعتين وهو يسلم على الحشود.
عندما حل الغداء كنت حاضرا مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وكان وزير الداخلية إدريس المحمدي، وأيضا الغزاوي مدير الأمن، بالإضافة إلى الحسن اليوسي وزير الداخلية، وأحمد رضا اكديرة، حاضرين جميعا لتناول طعام الغداء.
وأذكر أن إدريس المْحمدي قال لجلالة الملك محمد الخامس إن الإسبان غادروا هذه المنطقة وتركوها كما وجدوها تماما، في إشارة إلى أن المنطقة لم تعرف أي تنمية، ولم تُحدث بها طرق معبدة ولم تُبن فيها العمارات.
كان المحمدي مُحقا في قوله، فالإسبان لم يستثمروا كثيرا في منطقة الشمال عموما.
ومن بين الوقائع التي عشتها في ذلك اليوم، وأعتز بها أيما اعتزاز، عندما منحني ولي العهد الأمير مولاي الحسن، بحكم معرفته بعلاقتي بمدينة تطوان والمقاومين التطوانيين، مأذونية نقل.. لكني قلت لسموه أن يستسمحني، واقترحتُ عليه أن يمنح تلك المأذونية لأرملة أحد المقاومين من أصدقائي نظرا لأنها تعيل أبناءها اليتامى وليس لديها أي مصدر دخل للإنفاق عليهم.
وأذكر أن ولي العهد تأثر كثيرا، بحضور وزير الداخلية ادريس المحمدي، وقال له مشيرا إليّ: «لا خوف على المغرب ما دام فيه شباب مثل هؤلاء».
في ذلك اليوم وقع احتفال داخل القصر في تطوان، بتسلم المغرب رسميا للمنطقة الشمالية، ورأيتُ أحمد رضا اكديرة، الذي سوف يصبح وزيرا للداخلية، ومستشارا قويا للملك الراحل الحسن الثاني، وهو يحتفل ويحمل «طعريجة» يضربها بكثير من الحماس، ولم أتمالك نفسي لأخلد تلك اللحظة بالكاميرا.
بالعودة إلى سياق أحداث 1958 و1959، فإن معاناة عدد كبير من المقاومين كانت مستمرة.. بل إن مقاومي الشمال لم تتحسن أوضاعهم رغم مرور ما يقارب ثلاث سنوات على مغادرة المسؤولين الإسبان الذين كان من بينهم من أسدوا للمقاومة خدمات كبيرة.