الرأي

غرفة في السطح.. و«سلكة» في العلوم السياسية

المساكين وحدهم من يؤدون الضرائب في المغرب. فمنذ المرحلة الميمونة التي دخلت فيها فلسفة التدبير، باعتماد الحكومة مبدأ «عفا الله عما سلف»، تحول كل شيء إلى خلف لخير سلف، وهكذا أصبح التهرب الضريبي مهنة لها حرّاسها وخبراؤها.
قضية «القايد» والزوجين اللذين أصبحا أشهر من نار على علم، بعد أن كان كل أملهما في الحياة أن يبنيا غرفة لوالدة الزوج في سطح المنزل، تعكس هي الأخرى وجها من أوجه الفساد الإداري في المغرب، وليست إلا حصاة صغيرة جدا في شاطئ الفساد المتلاطم الأمواج.
القايد، الذي يقول إنه يتوفر على «السّلكة» في العلوم السياسية، رغم أن ما قام به لا يمت بصلة لا للعلوم ولا السياسة، ليس هو الآخر إلا بيدقا صغيرا جدا في منظومة الفساد الكبيرة التي أصبحت تشبه في متانتها الماكينات الألمانية.
هناك سؤال ملحّ، لم يطرحه أحد للأسف، طيلة الأيام التي تفجرت فيها هذه القضية. كيف كانت ستكون القصة لو أن العائلة امتنعت منذ البداية عن أداء «الرشوة» مقابل السماح لها ببناء غرفة في السطح؟
الناس دائما يساهمون في الفساد، دون أن يحسوا أنهم يساعدونه على الانتعاش، لذلك لا غرابة أن يكبر إلى أن يحتل غرف نومهم.
الفساد في الإدارات المغربية باق لأن المواطنين يشجعون على استمراره، بل ويقدمون له آيات الولاء. كيف يعقل أن تكون هناك منطقة بكاملها، لا يتوفر سكانها على رخص سليمة لمباشرة الإصلاحات داخل منازلهم؟ إنها إهانة كبيرة لهيبة الدولة أولا وللمواطنين أيضا. لماذا لم يمتنع أحد، طيلة تلك السنوات عن أداء المال للسلطة وأعوانها مقابل كسر جدار أو توسيع غرفة، ويطالب بالحصول على ترخيص سليم بشكل قانوني، يحفظ له كرامته أمام لجان التفتيش التابعة للسلطات المحلية.
لدينا وجه قبيح، نتورع دائما عن تأمله أمام المرآة. الحقيقة التي لا نريد تقبلها جميعا، هي أن هناك نسبة كبيرة جدا من المغاربة مستعدون لدفع آلاف الدراهم كرشاوى و«قهيوات» لأعوان السلطة بدءا من «العساس» ووصولا إلى السيد المدير، فقط لتمكينهم من رخص ووثائق إدارية، يمكن الحصول عليها بشكل قانوني بقليل من الصبر والصلابة والتمسك بمبدأ القطيعة مع الرشاوى والفساد. والأخطر من هذا كله، أن هناك مرضا خطيرا، يجعل المغاربة مستعدين لأداء آلاف الدراهم كرشاوى مقابل التهرب من أداء درهم واحد للضريبة بشكل قانوني.
المغاربة لا يحبون القانون وكثرة الإجراءات، لذلك تحولت البلاد إلى «فيرمة» يتجول فيها بعض أعوان السلطة ويعيدون تجسيد قصص أيام السيبة، حيث القايد يفهم في كل شيء ويمارس كل شيء ولا ينقصه إلا تحديد مواعيد نزول الأمطار، ليتحول إلى آلهة إغريقية حقيقية.
الكل انشغل بما وقع بين القايد وزوجة المواطن الذي بنى غرفة في السطح فأنجبت له عمارة من الهم، ولم يتساءلوا عن المصير الذي ينتظر تلك المدينة بكاملها، ومعها أيضا بقية مدن المغرب. فالكوارث الإنسانية التي تقع بين الفينة والأخرى، من سقوط للعمارات العشوائية، واكتشاف الغش في بناء الإقامات السكنية، كلها تنطلق من حالات مشابهة لما وقع فيه «القايد». وفي الأخير يفتحون تحقيقا لاكتشاف ملابسات الواقعة. تُنسى الواقعة، ويُجمع الركام وتقام عمارة مكانها، ويأتي قايد جديد، ولا بد أنه سيزور غرفة نوم أو أكثر، والتحقيق لا يزال مفتوحا. لا نجني من وراء كل هذا إلا دموع الأيتام ونميمة جبانة في المقاهي.
التهرب الضريبي ليس حكرا على بانما ولا على الأسماء التي اكتشفوا أنها موجودة على اللائحة. نحن لا نحتاج إلى تسريبات من المكاتب ولا إلى تحقيقات صحفية لنكتشف من يتهرب من الأداء. انظروا فقط إلى قصة القايد.. فغرفة في السطح، ليست إلا بداية للتهرب الكبير الذي يقوم به الكبار حتى لا يبنوا أسقفا للدولة.
المسألة، بكل بساطة، مسألة مبدأ. عندما يأتي يوم يمتنع فيه المواطن عن دس مبلغ ما في جيب رجل سلطة ليمكنه من ترخيص، ويطالبه بمباشرة الإجراءات قانونيا، سينقرض هؤلاء الذين يريدون العودة بنا إلى أيام «القياد»..
أما «السيبة» فلا زالت تقيم بيننا، في الطابق العلوي تحديدا. فقط قياد الأمس وأعوانهم كانوا يحملون «السلكة» في القرآن، والقايد الشهير «يحملها» في العلوم السياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى