كلفنا الملك محمد الخامس بإعداد تقرير عن منطقة الريف رفقة الوزير محمد الزغاري

يونس جنوحي
مهمة بالريف بتكليف من الملك
كنا نشكل وفدا مكونا من بعض أعضاء جيش التحرير، ومعنا أيضا المحجوب بن الصديق، وكنا نتجه، على متن سيارته، إلى منطقة الريف.
كان معنا الوزير سي محمد الزغاري الذي كلفه الملك الراحل محمد الخامس بتفقد الأوضاع وتقييم أضرار المنازل في منطقة أكنول وإعداد تقرير عنها لمباشرة عمليات الإصلاح والترميم.
كانت المهمة عسيرة، إذ تعين علينا أن نتفقد بعض المناطق التي لم تكن الطريق إليها معبدة، وطبعا كنا نعرف المنطقة جيدا بحكم الفترة التي قضيتها في الشمال عندما كنت مكلفا بالاستعلامات، فقد زُرت جل مناطق الريف والشمال في إطار مهامي في جيش التحرير. وحدث أن علقت سيارة المحجوب بن الصديق في الوحل ولم ننجح في إخراجها إلا بصعوبة. والتقطتُ صورة، بهذه المناسبة، توثق لهذا الوفد والمهمة التي قمنا بها.
محمد الزغاري، للإشارة، تقلد مناصب وزارية مهمة منذ الاستقلال، فقد كان نائبا لسي البكاي في أول حكومة بعد الاستقلال، ثم وزيرا للدفاع الوطني، ثم عينه الملك الراحل محمد الخامس واليا لبنك المغرب، وبعد ذلك عُين وزيرا للدولة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني أيضا.
وكان رحمه الله من أعضاء الحركة الوطنية في فاس، مسقط رأسه.
في طريق عودتنا إلى الرباط، بعد إحصاء المنازل المتضررة، توقفنا في مدينة فاس. وبحكم أن مولاي مصطفى بلعربي العلوي، ابن العلامة شيخ الإسلام مولاي العربي العلوي، كان يرافقنا في تلك المهمة، ارتأينا أن نزور والده، شيخ الإسلام.
ومولاي مصطفى بلعربي عينه الملك الراحل الحسن الثاني لاحقا وزيرا للعدل، في أكثر من حكومة ما بين سنوات 1981 و1992 كما سبق أن عُين عاملا على مدينة الدار البيضاء، وكانت بيني وبينه معرفة طيبة وصداقة.
ومن أطرف ما جمعني به، عندما كان وزيرا رحمه الله، أنه حضر مرة إلى القصر الملكي للاحتفاء بعيد العرش في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والتقيتُه هناك وأسرّ لي قائلا: «إن أحد الوزراء في الحكومة قال لي لماذا تُرافق المقاومين كثيرا، ماذا بينك وبينهم؟ فأجبته: هذا هو الإرث الذي حظيتُ به من الوالد رحمه الله – يقصد شيخ الإسلام».
أعود إلى سياق الأحداث، فقد استقبلنا شيخ الإسلام العربي العلوي في داره، واجتمعنا عنده وكان رجلا لطيفا وبشوشا. وبحكم حداثة سني وقتها، قررتُ أن أوزع السجائر على الحاضرين في تلك الجلسة في قلب دار شيخ الإسلام.
ولا زلت أذكر علبة السجائر التي كنت أحملها معي، وكيف أنني شرعتُ في منح الحاضرين، سيجارة، واحدا واحدا. ولم ينهرني شيخ الإسلام على ذلك التصرف الذي أقدمتُ عليه، إذ لم تكن لدي أي خلفيات أو نوايا من وراء ذلك السلوك.. بل إنه رحمه الله تسلّم مني سيجارة، وأمسكها بيده، وابتسم بل وقال لي:
-«من أخبرك أنني أدخن؟».
فأجبته رحمه الله أنني أردتُ فقط مجاملة الضيوف، لا أكثر. ولاحظ رحمه الله أنني لا أزال صغير السن وأن تصرفي لم يكن الغرض منه إحراج أحد.
وكلما ذُكر اسم هذه الشخصية العظيمة، شيخ الإسلام، الذي كان يحظى بتقدير خاص لدى الملك الراحل محمد الخامس، والملك الراحل الحسن الثاني، إلا واستعدتُ تلك الواقعة الطريفة.
ولا أدعي أنني كنت ألتقي شيخ الإسلام أو أعرفه عن قرب. فقد كانت تلك المرة الأولى التي التقيتُه فيها في حياتي، والأخيرة أيضا.
وبحكم أن الوزير الزغاري كان ينحدر من مدينة فاس أيضا، دعانا بدوره إلى تناول وجبة الغداء في داره، ورافقنا شيخ الإسلام، أيضا، مُلبيا دعوة الوزير.
مرت هذه المهمة، ولا أعرف تحديدا ماذا كان مآل التقرير الذي أعده الوزير الزغاري، لكن ما وقع أن الملك الراحل محمد الخامس كان يتابع أولا بأول أوضاع المنطقة في نهاية الخمسينيات، وأعطى الأمر بترميم المنازل المتهالكة، وإصلاحها وإخراج سكان تلك الدواوير من العُزلة والتخفيف من معاناتهم.
ذكريات في القصر الملكي
قبل أن أعرج إلى الحديث عن مرحلة التدريب العسكري، لا بد أولا أن أشير إلى مسألة اشتغالي في القصر الملكي في الرباط. جاء هذا بعد ارتدائي للبذلة العسكرية للجيش الملكي. كنا فريقا من العسكريين، مهمتنا مزاولة بعض الأعمال.
وأذكر مرة أن جلالة الملك الراحل محمد الخامس كان لا يرغب في أن يدخل عنده أحد، وكان مشغولا جدا وأمرنا ألا يدخل إليه أحد.
أول من جاء كان هو الأمير مولاي الحسن، وكان برفقته مجموعة من الضيوف الأجانب. تقدمتُ من سموه، وقلتُ له إن جلالة الملك أمرنا ألا يدخل أحد نهائيا عنده. فما كان من سموه إلا أن استدار ناحية مرافقيه من الضيوف الأجانب وأخبرهم أن الملك مشغول جدا، وأن الجندي – وكان سموه يقصدني- لديه تعليمات لكي لا يدع أي شخص يتجاوز تلك البوابة. ولكي يمازح ضيوفه أخبرهم أن القرار يشمل الجميع، حتى لو كان ولي العهد شخصيا يريد المرور، بل وأضاف أنني قد أشهر سلاحي في وجهه إن خالف التعليمات.. فما كان من مرافقيه إلا أن انفجروا ضحكا وانصرفوا جميعا.
لكن محمد بنسودة، المنحدر من حزب الشورى والاستقلال، والذي اشتغل لاحقا مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني، فكان لديه رأي آخر.
فقد جاء في اتجاهي، وحاول المرور. واقتربتُ منه بأدب وقلتُ له إن جلالة الملك محمد الخامس أعطانا تعليمات لكي لا يدخل أحد إلى هذا المكان، وأن جلالته مشغول ولن يستقبل أحدا. فلم يتقبل الأمر، بل وحاول المرور، لكننا منعناه، وأخذ رحمه الله يُرغي ويُزبد، بل وتوعد بأن يعاقبنا على منعه، ظنا منه أنني لم أرغب فقط في جعله يمر، وأنه سوف يشتكينا إلى جلالة الملك. وأعتقد أنه فهم الموضوع لاحقا.
ومن أعز ذكرياتي، مع الملك الراحل محمد الخامس، كواليس الاحتفال بأول ذكرى لعيد العرش بعد الاستقلال.
فقد كان، رحمه الله، يشرف على أشغال تزيين القصر الملكي ونصب بعض الخيام لاستقبال الضيوف من الشخصيات الوطنية والأجنبية، والمواطنين العاديين من أبناء الشعب الذين جاؤوا أفواجا للتعبير عن حبهم لجلالته.
وبينما كنا نحن الجنود منهمكين في نصب الخيام، حاملين المعاول والفؤوس، خرج إلينا جلالته، واقترب منا، ونحن على تلك الحال، وأخذ يعطي بعض التوجيهات. وكان، رحمه الله، ينادي على أحد منا عندما يرغب في توجيهه: «آ الكابران».. وفي لحظة لم يتردد جلالته في أخذ معول بنفسه، وشرع يسوي حفرة صغيرة في الأرض لنصب الخيمة، قبل أن يمنح الفأس لأحد الجنود، وكان هذا الموقف مؤثرا جدا ولاقى استحسانا من الحاضرين.