شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

كلفني الدكتور الخطيب بترتيب عملية نقل مغاربة للقتال في جيش التحرير الجزائري وهكذا زُرت أكنول

يونس جنوحي

خلال الفترة التي كنت فيها بتطوان، ما بين سنة 1954 وبداية 1956، كان الجنرال الإسباني «گارسيا فالينو» Garcia Valino في منصب المقيمية العامة الإسباني. وعُرف هذا الجنرال تاريخيا بأنه أقل اهتماما بتوطيد العلاقة مع الفرنسيين من سابقيه. وكان هذا الأمر لصالحنا.

في ديوان الجنرال، كان يعمل موظف إسباني ينحدر من مدينة الجديدة، واسمه «راخون».. والحق أن هذا الرجل كان يتعامل معنا بلطف بالغ، بل وكان مدافعا عن المغرب، وكان في السابق يدرس مع أخ الدكتور الخطيب، عبد الرحمن الخطيب.

عندما كان أحدنا يُعتقل في المنطقة الإسبانية، كان «راخون» غالبا ما يتدخل ويُسهل علينا عملية التواصل الإداري على الأقل. كما أن الجنرال نفسه كان متساهلا معنا ولم يكن سجن الإخوان اللاجئين يتم في ظروف مشددة.

كانت سياسة الجنرال فرانكو يلخصها المثل القائل: «فرّق تسد». لذلك كان الجنرال دائما على خلاف مع المسؤولين الإسبان الآخرين في المنطقة الخليفية. ولذلك كنا دائما نسمع أن المسؤول الفلاني ذهب إلى مدريد لكي يشتكي بنفسه إلى إدارته من مسؤول آخر. وهذا الأمر كان لصالحنا نحن اللاجئين. وكان الخلاف بين المسؤولين يشكل مساحة ومتنفسا لنا في تطوان.

بعد تجربة السجن القصيرة التي قضيتها بسبب استضافتي المقاوم الجزائري العربي بن مهيدي، لم يتأثر وجودي في تطوان وعُدت إلى ممارسة حياتي الطبيعية. كان هذا يدخل طبعا في إطار سياسة «التساهل» الإسباني معنا، رغم أننا في نظر الفرنسيين «إرهابيون» ونشكل خطرا على الأمن العام.. كما أن علاقتي بمحمد بوضياف توطدت كثيرا بعد هذه الواقعة.

 

مغاربة في جيش تحرير الجزائر

من بين الحقائق التي تزعج الكثيرين، اليوم، واقع اشتغال بعض المقاومين الجزائريين رفقة إخواننا في جيش التحرير والمقاومة المغربية، على تأسيس جيش التحرير الجزائري، وإطلاق عملياته من المغرب.. ولولا وجود قادة الثورة الجزائرية بيننا لما كُتب لها النجاح.

في تطوان، دائما، عينني الدكتور الخطيب، رفقة المقاوم «ملال» الذي كان ينحدر من منطقة فگيگ، وهو ابن المنطقة الحدودية ولديه دراية كبيرة جدا بنطاقها الجغرافي، لكي نتكلف بنقل تجربة جيش التحرير في الشمال إلى الجزائر. والحق أن هناك الكثير من المُجندين المغاربة في جيش التحرير المغربي، أبانوا عن استعدادهم للانتقال إلى الجزائر وقتال فرنسا في سبيل تحرير الجزائر من الاستعمار.

كانت هناك ثكنة فرنسية في مدينة تازة، يوجد بها مجندون مغاربة وجزائريون في صفوف الجيش الفرنسي. وكان المخطط يرمي إلى إحضار الفارين منهم من الخدمة في صفوف الجيش الفرنسي، إلى منطقة «أكنول».

كانت تتوفر لنا ثلاث شاحنات، كل شاحنة تحمل حوالي ثلاثين جنديا مغربيا غادروا صفوف الجيش الفرنسي، أو من أفراد جيش التحرير المغربي. بالإضافة إلى شاحنة أخرى تحمل 24 جنديا من أصل جزائري، فرّوا من الجيش الفرنسي وجاؤوا عندنا. وكانت مهمتي والأخ «ملال» أن نرتب رحلة هذه الشاحنات المحملة بالجنود المغاربة، والجزائريين، إلى الجزائر.

التقطتُ صورا شخصية لهؤلاء الجنود الجزائريين، وأعددت ملفا تعريفيا عن كل واحد منهم، وأخذت الملفات إلى إدارة قيادة جيش التحرير.. بينما تكلف الأخ «ملال» بنقل الآخرين إلى الحدود في وجدة.

لم أحضر تفاصيل العملية هناك، لكن ما بلغ إلى علمي من الإخوان أن العملية لم تتم كما كان مرجوا. فقد أخذ الجزائريون السلاح، لكنهم لم يهتموا كثيرا بالجنود وسُرح الكثيرون منهم.. بينما الجنود الجزائريون انضموا إلى إخوانهم..

ما لاحظناه أن الجزائريين كانت لديهم مشاكل كثيرة في علاقتهم ببعضهم البعض، وهذا الأمر أثّر على عدد من المخططات المشتركة بين قياداتنا وبينهم.

ومن بين المشاريع المُقبرة، والتي لم يرغب الكثيرون من قادة جيش التحرير الجزائري في إثارتها بعد استقلال بلاهم، مشروع الإذاعة التي كانت تبث من المغرب، وتُوجه إلى الجزائر وساهمت كثيرا في توعية الجزائريين للانضمام إلى جيش تحرير بلادهم والمطالبة بالاستقلال عن فرنسا.

لا أتوفر على معطيات وافرة بشأن هذه الإذاعة التي كانت في مدينة الناظور، ولم يسبق لي للأسف أن زرتها في فترة اشتغالها.. لكن الحقيقة أن فكرة هذه الإذاعة بدأت أولا في تطوان عندما كان محمد بوضياف موجودا هناك، لكن لم يُكتب لها نهائيا أن تظهر إلى الوجود.

 

مهمة «مستحيلة» في قلب الجبال

في أحد الأيام، وكان هذا في فترة نهاية 1954 وبداية 1955، نادى عليّ المقاوم حسن صفي الدين، وقال لي إن هناك رغبة لدى القيادة لإرسالي إلى الناظور، بهدف توثيق ما يقع هناك والتقاط الصور. جاء المقاوم سعيد بونعيلات وكان مخططا أن أرافقه في الرحلة إلى الناظور.

قضينا يومين في الاستعداد، وكان بونعيلات رحمه الله يقضي ليلته في استوديو التصوير عندي.

عندما وصلنا إلى الناظور، وجدتُ عباس المساعدي، الذي كان مكلفا هناك، في انتظاري. فقد اتصلوا به من تطوان وأخبروه بمجيئي.

تناولت وجبة الغداء مع عباس المساعدي في المقر بالناظور. ولكي أوضح الصورة، كان جيش التحرير يتوفر على إدارة متكاملة الأركان في الناظور، وكانت الأمور غاية في التنظيم. وبعد العشاء، ركبنا السيارة، وخرجنا في جولة وكان الصندوق الخلفي للسيارة محملا بالأسلحة.

وجدنا مقاوما اسمه «القايد علال»، في انتظارنا. كان معه بغلان محملان بالأسلحة، وأحضر جلبابا محليا لكي ألبسه. وانطلقنا أنا وهو في رحلتنا عبر الجبال مساء. مررنا بأحد الدواوير وصادفنا حفلة زفاف هناك. ولكي لا نثير الانتباه إلينا، قدمني القايد علال للناس على أساس أنني فقيه. والحمد لله أنني استثمرتُ ما كنت أحفظه من القرآن الكريم من مرحلة الدراسة في الكُتاب.. وإلا لكانت ورطتي مع أولئك الناس كبيرة!

وعندما غادرنا الحفل، لُمت القايد علال كثيرا، وقلت له إنه يجب أن يحمد الله أنني كنت أحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وسألته ماذا كان سيكون مصيرنا لو أننا انكشفنا. فضحك رحمه الله وقال لي: «وهل تريد أن أقول لهم إننا ننقل السلاح؟».

واصلنا طريقنا نحو «دار» كان صاحبها من رفاق المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي. وكان يتعامل مع المقاومة في المنطقة الحدودية الفرنسية والإسبانية. ولم نصل إلى تلك الدار لنسلم السلاح، إلا في ساعات الصباح الأولى.

استرحنا قليلا، وعاد «علال» أدراجه من حيث جاء. بينما بقيتُ في ضيافة صاحب الدار، لم أعد أتذكر اسمه للأسف، لكي أرتاح قليلا قبل أن أواصل الرحلة.. اصطحبني ابن صاحب الدار عبر الجبال فوق تازة. وفي هذا الموقع يتوجب دائما اتخاذ الحيطة والحذر. فقد كانت تلك المناطق كلها نقط تماس بين المنطقتين الفرنسية والإسبانية.

لمحنا دخان حريق مصدره دار «الغابوشي»، الذي كان مجندا في صفوف الجيش الفرنسي سابقا، ويُساعد المقاومة ويدرب أطر جيش التحرير. وعندما علم الفرنسيون بأنشطته، أحرقوا داره انتقاما منه. وعندما وصلنا، وجدنا آثار الحريق لا تزال شاهدة على ما وقع.

وصلتُ إلى أكنول، وعاينتُ أطر جيش التحرير وعمليات التدريب هناك. ومن جملة من التقيتهم في هذه الجولة، المقاوم «الزكريتي». وهذا المقاوم كان وطنيا صادقا ومن خريجي جامعة القرويين، بل كان منزله قِبلة لكل من يريد الانضمام إلى جيش التحرير في تلك المنطقة. عرض عليّ المبيت عنده، لكن كان يتعين عليّ مواصلة الرحلة لربح الوقت ومعاينة المزيد من النقاط والمواقع التي ينتشر فيها جيش التحرير.

ولحسن حظي، عندما كنت أستعد مع مرافقي لكي أعود إلى الناظور عبر الطريق الجبلية الوعرة نفسها، مرت بجوارنا شاحنة وطلبوا من سائقنا أن يوصلني إلى الناظور، وفعلا أوصلني إلى مكتب جيش التحرير.

سألني عباس المساعدي وعبد الله الصنهاجي عن انطباعاتي وما عاينته أثناء الجولة في نقاط جيش التحرير.

وهنا ارتكبتُ خطأ كان سيكلفني حياتي.

فقد انطلقتُ في الحديث بدون أي تحفظ، وبدأت أنتقد بعض ما رأيته هناك وقلت لعباس إن قيادة بعض فرق جيش التحرير في الجبال تطغى عليها الشيخوخة، ويجب التفكير في «تشبيبها» ومنح فرص للشباب.

أحسستُ بأن المساعدي والصنهاجي لم يعجبهما كلامي. فقد كانا يعلمان أن الملاحظات التي كشفتها ستصل بالتأكيد إلى تطوان.

طلبا مني أن أعطيهما آلة التصوير التي وثقتُ بها كل المواقع التي زُرتها، وكان معهما أحد المقاومين، وكان اسمه «جحا»، وكانت لديه شعبية كبيرة في أوساط المقاومين وأعضاء جيش التحرير.

اقتادني «جحا» إلى غرفة صغيرة تقع في الطابق السفلي للمكتب، بعد أن سلمته آلات التصوير والمعدات التي كنت أحملها معي. وأخبروني أن أرتاح هناك لبعض الوقت.

سألني جحا في لحظة حديث صريح بيني وبينه:

-ماذا فعلتَ؟

لم أفهم سؤاله في البداية، لكنه شرح لي أن هناك خطة مُبيتة للتخلص مني وتصفيتي جسديا.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى