شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

مضامين من مذكرات منقرضة تنشر لأول مرة

مشاهدات الكاتب البريطاني «آشميد بارتليت» الذي عايش استعمار المغرب

«شهر غشت 1907 كان شهرا مشهودا في تاريخ المغرب. وتميز بثلاثة أحداث غاية في الأهمية. وهي: أولا، قصف الدار البيضاء ونزول الجيش الفرنسي في شاطئها. ثانيا، رحيل المولى عبد العزيز عن فاس. وثالث الأحداث، إعلان تنصيب المولى عبد الحفيظ سلطانا للمغرب من مراكش.

تم استدعاء كل الأجانب في المغرب على عجل لينتقلوا إلى المناطق الساحلية، حتى في فاس التي تعتبر مركزا لقوة السلطان، كان موظفو المخزن الرسميون قد أعلنوا أنهم لن يستطيعوا أبدا ضمان سلامة الأوربيين، وأوصوا بشدة بأنه يتعين على جميع الأجانب مغادرة العاصمة فورا.

وافق القناصلة والتزموا بالتعليمات، ومع بداية غشت، كانت كل البعثات الأوربية والقناصلة والتجار الأجانب والأطباء وأعضاء البعثات الذين كان يصل عددهم جميعا حوالي الستين، قد غادروا كلهم فاس إلى القصر الكبير برعاية خفر قوي من الجنود التابعين والأوفياء للسلطان. ووصلوا إلى شواطئ المحيط الأطلسي بأمان». هذا مقتطف من هذه المذكرات المثيرة لصاحبها «آشميد بارتليت»، والتي اختار لها عنوانا «محيرا» فعلا، كالآتي: «THE PASSING OF THE SHEREEFFIAN EMPIRE». أي أنه يعلن هزيمة المغرب وكيفية سقوط «الإمبراطورية الشريفة» في قبضة فرنسا، من عنوان الكتاب.

يونس جنوحي

أوراق منسية من سيرة مغامر وثّق لأيام سوداء في البلاد

ابحث عن «آشميد بارتليت» اليوم ولن تجد أي شيء. هذا الكاتب المغامر الذي استقر في بريطانيا وكتب فيها مذكراته سنة 1910 عن تجربته المغربية، سبق له أن كتب كثيرا عن السفر إلى بقاع الأرض وعادات الشعوب والقضايا السياسية الشائكة في آسيا وشمال إفريقيا. لكن رحلته إلى فاس وجولته في المغرب في عز تحول البلاد عندنا إلى ساحة توتر ضد الوجود الأجنبي العسكري والدبلوماسي، كانت أهم ما وقع في مساره واحترافه لمهنة الكتابة عن الأخطار.

يقول هذا الكاتب في تقديم مذكراته: «هدفي الأبرز من وراء كتابة هذا الكتاب، أن أظهر كيف خسرت المملكة الشريفة استقلالها وكيف تحولت إلى مرمى أطماع الدول الأوربية». يضيف أيضا، في فقرات أخرى من تقديم طويل تحدث فيه عن حيثيات رحلته إلى المغرب وقراره الكتابة عن التجربة المغربية، أنه لم يكن من السهل أبدا تناول قضية المغرب بحكم الإرث التاريخي للمغرب ودقة المرحلة التي كان فيها صراع بين المغرب وبين كل ما هو أوربي يحمل الحضارة من وراء البحر إلى بلد ضارب في التاريخ لديه نظامه ودينه وخصائص تتعلق به وحده.

«المخزن» هذا النظام أو الجهاز، الذي حفز فضول «آشميد» وجعله يشد الرحال دون تفكير لكي يدخل البلاد ويقرر أن يتغلغل فيها ويتجاوز الحدود التي وضعها الأجانب لرعاياهم حفاظا على سلامتهم في المغرب.

هذا العمل التوثيقي الذي قام به «آشميد»، سجل لحظات مهمة جدا من تاريخ المغرب الحديث. ومنها لحظة خروج الأجانب من فاس، بعد اندلاع الأحداث داخلها ورفض الوجود الأجنبي. إذ في هذه المذكرات يقول «آشميد» إن الأخبار كانت تصل من مراكش، مفادها قوات من القبائل الغاضبة في طريقها إلى فاس، لإجبار الأجانب على المغادرة، وهو ما جعل البعثات الأجنبية توصي رعاياها بالذهاب صوب المناطق الساحلية لتسهيل نقلهم بحرا من المغرب إن تطورت الأمور نحو الأسوأ.

من جهة أخرى، جرى زلزال سياسي حقيقي في تلك الأثناء، خصوصا وأن المخزن عرف تنقيلات كبيرة في آخر لحظات وجود المولى عبد العزيز في السلطة، وهو ما نقل «آشميد» بعض تفاصيله، وقال إن بعض رموز المخزن عندما رأوا الأمور تتجه نحو الأسوأ حاولوا التبرؤ من علاقتهم بالأجانب، بدل أن يحاولوا البحث عن صفقات للإجلاء.

بدا واضحا أيضا أن الكاتب كان من الزمرة التي توجهت إلى الرباط، لأنه تناول في فصل خاص وقائع الأسابيع الأولى التي تلت زلزال السلطة في فاس، وتحدث عن وصول باخرة عسكرية فرنسية ضخمة إلى مدينة الرباط، والارتجال الذي تلا وصولها وارتباك المسؤولين المغاربة في التعامل معها، وهو ما كشف أن السلطة في المغرب كانت تعيش انقساما غير مسبوق في اتخاذ القرار المناسب للتعامل مع الوجود الأجنبي في المغرب، رغم نجاح «الثورة» التي قادها العلماء وقادة القبائل لإنهاء وجود الأجانب في مدينة فاس، بكل ما تمثله بالنسبة للمغاربة من قداسة.

 

 

الكاتب كاد أن يفقد حياته في مخيم بـ «تادارت»

كان الكاتب «آشميد بارتليت» من المحظوظين القلائل الذين تجولوا في المغرب مع فرق الجيش الفرنسي في شهر شتنبر 1907. إذ في يوم 3 من ذاك الشهر، كان على موعد مع حدث كاد أن يقلب حياته رأسا على عقب، ويجعله واحدا من أفراد لوائح الذين رحلت جثامينهم على ظهور البغال لتحملها السفن إلى الضفة الأخرى لتدفن في أوربا. أو إن كان محظوظا كفاية، فسوف يدفن جسده في مقابر خصصت لضحايا الحرب الفرنسيين في المغرب. لكن «آشميد» لم يكن لا من هؤلاء ولا من أولئك. كان مغامرا يتلمس طريقه بين الألغام، وحاول أكثر من مرة الاقتراب من قلب الأحداث رغم الخطورة التي كانت تنطوي عليها العملية ككل.

يقول إنه في تادارت، مباشرة بعد واقعة مقتل جنرال فرنسي اسمه «بروفوست»، كان المخيم العسكري يعيش على إيقاع من التأهب. ماذا كان يفعل «آشميد» هناك؟ كان فقط مرافقا للوحدات العسكرية لتوفر له الحماية بحكم أنه لم يكن فرنسي الجنسية، ولم يكن لديه أي رابط أو اتفاق مع الجيش الفرنسي. لكنه كان في إطار جولته التي سبقت توقيع معاهدة الحماية، يتنقل بين وحدات القوات الفرنسية والتمثيليات الدبلوماسية الأجنبية في المغرب، بل ويصل أيضا إلى منازل موظفي المخزن النافذين ومنهم إلى خبايا القرار المغربي قبيل توقيع معاهدة الحماية. ويقول إنه توفرت لديه الكواليس، رغم أنه لم يفصل في ذكر عدد من النقط التي بقيت غامضة في الرواية التي قدمها للأحداث.

كان «آشميد» معجبا جدا بالموقف المغربي الرافض للوجود الأجنبي في المغرب، وهذه نقطة اعترف بها في أكثر من موضع بين صفحات كتابه الذي يحمل معنى سلبيا يكشف للقارئ الأجنبي انهزام المغرب في معركته ضد أوربا، وليس فرنسا وحدها، حتى قبل أن يطالع الكتاب. إذ يقول إن المقاتلين المغاربة كانوا على درجات قصوى من التأهب، وأن لياقتهم البدنية العالية كانت كابوسا حقيقيا لقوات الجيش الفرنسي. ولولا أن الباخرة العسكرية الفرنسية رست في شواطئ الرباط لحسم نتيجة الثورات المتاخمة لواد أبي رقراق لصالح فرنسا، لربما استمر المغرب سنوات أخرى في مقاومة الوجود الفرنسي، على الخصوص، داخل التراب المغربي.

تجول الكاتب في مناطق كثيرة، وكانت الخلاصة دائما واحدة. القبائل المغربية كانت لديها قدرة كبيرة جدا على مقاومة فرنسا طالما كانت العمليات بعيدة عن البحر. لأن الهاجس الأكبر الذي قض مضجع المقاتلين المغاربة هي المعدات الثقيلة لفرنسا المتمثلة في البوارج البحرية. أما على الميدان، فلم يكن الجيش الفرنسي، حسب رواية هذا الكاتب للأحداث، قادرا على الصمود أمام عزيمة المحليين الذين كانوا يرفضون وجود فرنسا في المغرب.

اعتراف تاريخي غير مسبوق بقوة الجيش المغربي سنة 1873

اهتمام غير مسبوق بالجيش المغربي وقدرات المغاربة عموما على القتال، ملاحظة لا تُخطئها العين بمجرد الاطلاع على صفحات هذه المذكرات لصاحبها «أشميد بارتليت». إذ خصص حيزا مهما للجيش المغربي خلال فترة ما بعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1873. ويقول متحدثا عن الجيش المغربي في فصل عنونه بـ «المغربي باعتباره جُنديا» : «الحملة في الشاوية كانت لها قيمة إرشادية مهمة جدا للفرنسيين، رغم أنها لم تكن لها أي فوائد مادية فورية. لقد جعلتهم قادرين على تقدير القوة المغربية التي عليهم مواجهتها إذا ما قرروا غزو المغرب واحتلال عاصمته فاس. هناك درسان مهمان جدا يمكن استخلاصهما بهذا الصدد. أولا المغاربة لم يخسروا أبدا أي قدر من شجاعتهم وقدراتهم القتالية على الميدان. والنقطة الثانية تتعلق بقدرتهم الكبيرة على المقاومة والانضباط في مجموعات صغيرة، إلى جانب الروح البطولية التي لديهم.

في الحقيقة، فإن الفرنسيين، باستحضار تجاربهم السابقة في الدار البيضاء، كانوا ينظرون إلى مهمتهم في المغرب على أنها أشد صعوبة من مهمتهم السابقة في الجزائر. والمغاربة الذين اعتقدوا سابقا أنه بمقدورهم مواجهة فرنسا بسهولة، خلصوا الآن إلى أنهم لا حظ لهم في هزيمة فرنسا. تفاؤل الفرنسيين وتشاؤم العرب سببه الدمار الذي تسببه الأسلحة الحديثة».

هذا الاعتراف بقوة الجيش المغربي المخزني وقتها، كان يصاحبه تشكيك في قدرة المغاربة على الاستمرار في مواجهة القوات الفرنسية خصوصا بعد سنة 1907، بحكم الصعوبات التي كان يمر بها المغرب من الناحية السياسية على الخصوص. وبالرجوع إلى السياق الذي حرر فيه «آشميد» هذه المذكرات في لندن، فإنه كان يكتب من منظور ترتيب الوقائع، بحكم وجود فرق كبير بين الفترة التي قضاها في المغرب، والتطورات التي وقعت عندما عاد إلى لندن سنة 1914 وقرر أن يكتب هذا الكتاب، الذي يختلف نوعا ما عن عدد كبير من المذكرات التي سبق كتابتها عن المغرب.

يقول أيضا إن المقاتلين المغاربة الذين يحاربون باسم القبائل التي ينتمون إليها كانوا أشد إيمانا بقدرتهم على طرد فرنسا من المغرب. بعكس واقعية الجيش النظامي الذي جرى تدريبه على يد خبراء عسكريين أجانب، على خلفية اتفاقيات عسكرية بين المغرب وبريطانيا على وجه الخصوص. فوحدات الجيش المغربي النظامي كانت تدرك أن المدفعيات والأسلحة الحديثة التي تملكها فرنسا، لن تصمد أمامها أشد القبائل ضراوة وقدرة على القتال حتى في التضاريس الوعرة.

لكن الحقيقة أن هذه القبائل المغربية أثبتت فعلا لفرنسا، ولكل دول أوربا خلال الحرب العالمية الأولى خصوصا، ما بين سنوات 1914 و1918، أن المقاتلين المغاربة كانوا أشد بأسا من جيوش أوربا. والدليل أن فرنسا تكبدت خسائر فادحة في المغرب في وقت كانت تحقق فيه الانتصارات خلال الحرب العالمية الأولى فوق التراب الأوربي مع حلفائها.

لكن في الفترة التي كان فيها الكاتب في المغرب، لم تكن كل هذه المعالم واضحة. كان هناك اعتراف بقوة القبائل المغربية التي ترفض الوجود الأجنبي في المغرب، وبالمقابل كان هناك صمت على المستوى الدبلوماسي وتأمل للحالة المغربية وانتظار إلى ماذا سوف تؤول إليه الأمور في فاس. وهذا الترقب بالذات، هو الذي جعل «صاحبنا» يكتب مذكراته.

 

لحظات تُروى لأول مرة عن ترحيل «النصارى» من فاس خوفا على حياتهم

هنا ينقل لنا السيد «آشميد» الوقائع التي عايشها سنة 1907 في القصر الملكي بفاس. يقول: «شهر غشت 1907 كان شهرا مشهودا في تاريخ المغرب. وتميز بثلاثة أحداث غاية في الأهمية. وهي: أولا، قصف الدار البيضاء ونزول الجيش الفرنسي في شاطئها. ثانيا، رحيل المولى عبد العزيز عن فاس. وثالث الأحداث، إعلان تنصيب المولى عبد الحفيظ سلطانا للمغرب من مراكش.

فور وضع جنود الجيش الفرنسي أقدامهم على شاطئ الدار البيضاء، اندلعت الحملة ضد المولى عبد العزيز، واشتد الخناق ضد «الكفار» والأجانب في كل المغرب. كان هذا دليلا قويا على أن البلاد تمر بأزمة كبيرة لم يكن ممكنا أبدا توقع نتيجتها. تم استدعاء كل الأجانب في المغرب على عجل لينتقلوا إلى المناطق الساحلية. حتى في فاس التي تعتبر مركزا لقوة السلطان، كان موظفو المخزن الرسميون قد أعلنوا أنهم لن يستطيعوا أبدا ضمان سلامة الأوربيين، وأوصوا بشدة بأنه يتعين على جميع الأجانب مغادرة العاصمة فورا. وافق القناصلة والتزموا بالتعليمات، ومع بداية غشت، كانت كل البعثات الأوربية والقناصلة والتجار الأجانب والأطباء وأعضاء البعثات الذين كان يصل عددهم جميعا حوالي الستين، قد غادروا كلهم فاس إلى القصر الكبير برعاية خفر قوي من الجنود التابعين والأوفياء للسلطان. ووصلوا إلى شواطئ المحيط الأطلسي بأمان. أصبحت العاصمة فاس موطنا للقلاقل وعدم الاستقرار. وكان المولى عبد العزيز سيئ الحظ، إذ كانت القوات المناصرة له تسقط تباعا واحدة تلو الأخرى. كانت موارده تقريبا بلغت نهايتها. ولم يكن بمقدوره إعطاء أي تعليمات ولم تعد لديه القوة لإعطاء تعليمات للجيش الذي فقد ولاءه له. كانت القبائل المحيطة بفاس قد دخلت مرحلة العصيان وبدأت تسيطر على المدينة وتتوغل داخلها».

يقول «آشميد» أيضا إن شوارع فاس كانت تغلي وتتهم المخزن بأنه دعم «النصارى»، وكانت هناك احتفالات بخلو فاس من أي وجود أجنبي.

كان هذا الانتصار الظاهري، يعني أن العاصفة لم تبدأ بعد. وهذا الأمر لم يفهمه الذين انقلبوا على السلطان في حينه. بل استغرق الأمر منهم سنوات ليفهموا أن ما وقع في فاس كان غلطة كبيرة جدا. لأن الانفلات الذي وقع أجج ظاهرة «السيبة» ومكن فرنسا بسهولة من السيطرة على المناطق المنفلتة، وكانت تلك السنة، أي 1907، المحطة التي حققت فيها فرنسا أوسع انتشار عسكري بدون مقاومة تقريبا قبل فرض الحماية سنة 1912 لتدخل البلاد مرحلة أخرى بطبيعة الحال، كانت فيها المواجهات على أشدها وفي سياق مختلف تماما عما وقع في فاس.

يضيف «آشميد» أيضا معلومات عن موقف الأجانب الذين كان عليهم مغادرة فاس بحماية من جيش القصر الملكي حفاظا على حياتهم. حيث إن هؤلاء الأجانب من مختلف الجنسيات، كانوا قد أبرموا اتفاقيات تجارية مع المغرب في قلب العاصمة فاس، وكانت مغادرتهم لها إعلانا لحكوماتهم، مفاده أن المغرب يعيش انفلاتا أمنيا ولم يعد ممكنا ضمان سلامة مصالح الدول التي تتعامل مع المغرب، بسبب الثورة المحلية ضد «النصارى». وهذا الأمر جعل دولا مثل ألمانيا وإيطاليا، تقرران محاولة التغلغل السياسي في انتظار مخطط عسكري قد يسهل سيطرتها على المغرب مستقبلا. مما أضعف الحظوظ المغربية وجعل سقوط البلاد تحت رحمة الاستعمار حينها، مسألة وقت فقط.

 

المغرب تأخر في الترحيب بسفينة حربية فرنسية وأصوات المدافع تعالت في سماء الرباط

«في مساء يوم السادس من أكتوبر (1907) كانت هناك سفينة حربية ضخمة ترسو بهدوء في مياه المحيط وقت الغروب بمدينة الرباط. بصعوبة، تم إنزال السلسلة الحديدية الثقيلة لتثبيت السفينة، وتم إطلاق صفارات التحية من أعلى السفينة الحربية. كانت هناك مدافع مصطفة على طول الميناء، وأطلقوا 21 طلقة لإعلان الوصول إلى المدينة المقدسة. وبعدها، كان طاقم السفينة ينتظر ترحيب المدينة بهم. هذا الترحيب تأخر كثيرا إلى حد الاعتقاد أنه ألغي أو أن السفينة نُسيت تماما.

«أين هي عادات الترحيب بالأجانب»؟ تساءل البحارة. ثم بعد ذلك، ومن أعلى منطقة صخرية في الرباط، على مشارف نهر أبو رقراق، بدت سحابة كبيرة من الدخان الأبيض، وبعدها بنصف دقيقة، سُمع دوي المدفع العتيق الذي شُحن مرتين بالبارود وتم توجيهه في اتجاه السفينة. بطريقة غير منتظمة، دوى المدفع وأطلق 11 طلقة لتحية سفينة الأدميرال الفرنسية. ثم بعد فترة أخرى، انطلق مدفع الضفة الأخرى من النهر، في سلا، لتحية الغرباء».

كانت هذه الأجواء التي وصلت فيها الباخرة العسكرية الفرنسية إلى المغرب، والتي نقلها «آشميد» في هذه المذكرات، وتكشف إلى أي حد كان نخبة المخزن المغاربة رافضين للتعامل مع الأجانب سنة 1907. خصوصا وأن الجيش الفرنسي نفذ هجوما بربريا في الدار البيضاء، وها هي السفينة العسكرية ترسو قرب الرباط، لذلك كان هناك ارتباك كبير جدا في إعلان طقوس الترحيب بها، خصوصا وأن رجال المخزن في الرباط، كانوا لا يختلفون في أي شيء عن نظرائهم في فاس. إذ كان هناك تخوف كبير من أن تكون القبائل المجاورة للرباط قد تبنت نفس سياسة القبائل والقرى المجاورة لفاس. وهو ما يعني وقتها أن ثورة كبيرة سوف تشتعل في المدينة. لكن الفرق بين فاس والرباط كان هو القرب من البحر. إذ أن السفينة الحربية الفرنسية لن يكلفها الأمر سوى دقائق لدك المدينة تماما مثل ما وقع في الدار البيضاء. لكن بالنسبة لإخماد ثورة فاس، فإن الأمر كان يتطلب نزول قوات برية وتحركا فوق الأراضي المغربية للوصول إلى فاس، وهو ما كان مستحيلا وقتها بالنسبة للجيش الفرنسي، لأن الوصول إلى العاصمة كان يعني سحق مئات القبائل التي تتوفر على آلاف الرجال الأشداء المستعدين للموت، قبل أن يصلوا فوق جثثهم إلى مشارف فاس. وفرنسا وقتها لم تكن مستعدة أبدا للهزيمة أو دخول معارك على الأرض، يظهر جليا أنها سوف تخسرها.

لذلك وجد حكام الرباط أنفسهم مرغمين على رد تحية السفينة الحربية الفرنسية التي كانت تقل عسكريين فرنسيين، كانوا في مهمة تتمثل في الوصول إلى فاس، ولقاء الوجوه الجديدة للسلطة، والذين جاؤوا من مراكش على أنقاض وجوه السلطة القديمة التي كان رجالها أصدقاء لفرنسا.

كان ركاب هذه السفينة البحرية يدركون، حسب ما جاء في هذه المذكرات، أن مهمتهم لن تكون سهلة لا في الرباط ولا في أي مكان آخر. لأن العلاقات الودية التي كانت تربطهم مع المغرب لم يعد لها وجود. وكان الهدف وقتها إعادة ربط الاتصال بنخبة «المخزن» الجديدة التي وصلت إلى السلطة. وكان وقتها القصر الملكي في فاس، بقيادة السلطان مولاي عبد الحفيظ، قد عمد إلى تهميش فرنسا، وعقد لقاءات مع البريطانيين أولا، بحكم أن الإنجليز لم يسبق لهم أبدا القيام بأي عمليات عسكرية في المغرب، وبالتالي فإن التعامل السياسي والدبلوماسي معهم، لن يجر على القصر الملكي أي غضب من القبائل التي كانت ترى في فرنسا عدوا يهدد المغرب.

 

بلاد على صفيح ساخن زيارتها كانت لوحدها «مقامرة» بالأرواح

أزيد من 600 صفحة، هي مجموع صفحات هذه المذكرات التي نقل فيها «آشميد بارتليت» مشاهداته، انطباعاته، وحتى خلاصاته ومواقفه، الموالية طبعا لبريطانيا، وتجربته المغربية عموما.

يقول «آشميد» إن وصوله إلى المغرب كان في حد ذاته مغامرة، رغم أنه سمع كثيرا عن التعايش الكبير والفريد في الشمال المغربي وبالضبط في منطقة طنجة الدولية، قبل أن يقرر الزحف إلى فاس، حيث كان «يُطبخ» القرار السياسي المغربي، لكن ليس على مهل.

الفترة المفصلية التي كان خلالها «آشميد» موجودا في قلب الأحداث، جعلت مذكراته المثيرة والنادرة، تصبح غنية المضمون. إذ أن الوقوف قرب هذه الأحداث ومتابعتها، يعد مخاطرة غير محسوبة، فما بالك بمحاولة دخول غمارها والكتابة عنها من الداخل.

بالنسبة لهذا الرجل، ومن معه، فإن مغادرة المخزن لمدينة فاس كان خسارة كبيرة جدا للأجانب الذين كانوا وقتها، أي سنة 1907، يوشكون على خلق تطبيع داخل المدينة التاريخية مع الوجود الأوربي الجديد. كان المحافظون المغاربة، يرفضون رؤية أشغال مد التيار الكهربائي إلى القصر الملكي في فاس، ويرفضون توسيع طريق ما لتسهيل مرور أولى السيارات التي وصلت إلى فاس، وعلى متنها مسؤولون من تمثيليات دبلوماسية أوربية، قطعوا بها الطريق من طنجة إلى فاس، ووصلوا بصعوبة، ليس لأن الطريق كانت صعبة، ولكن لأن الحالة الميكانيكية لتلك السيارة البدائية لم تكن تؤهلها لقطع المسافات الطويلة. ورغم ذلك فقد رأى الناس في وصول تلك السيارة إلى العاصمة فاس، قربا وشيكا لنهاية العالم. وما زاد من تأزيم الوضع، وقوف العلماء والفقهاء والقضاة في وجه هذا الوجود الأجنبي بكل مظاهره وصوره غير المألوفة بالنسبة للمغاربة.

وتحولت المدينة إلى أرض احتقان، خصوصا مع وصول أخبار من الجزائر عن ممارسات فرنسا التي استعمرت البلاد رسميا سنة 1830 وارتكبت هناك مجازر لا حصر لها.

كان هذا «التخوف» من كل ما هو أجنبي، أحد أهم الأسباب التي جعلت وجود البعثات الأجنبية في فاس أمرا غير مرغوب فيه.

وهذه التجربة التي عاشها «آشميد» كانت تصب في هذا الإطار. إذ أن رحلته إلى المغرب وقتها، كانت تعتبر مغامرة غير محسوبة، وما زكى هذا الطرح هو عمليات تصفيات الأجانب، خصوصا إسبان الدار البيضاء والفرنسيين المقيمين بها، حيث كانت أخبار الاغتيالات تصل كل صباح إلى مدينة فاس، وتجعل الأجانب أمثال صاحب هذه المذكرات يضعون أيديهم على قلوبهم. فقد فطنوا سريعا إلى أن المخزنيين والموظفين السامين لن يكون بمقدورهم توفير الحماية الدائمة للأجانب في واحدة من أقدم مدن المغرب وأكثرها كرها للأجانب قبل قرنين من اليوم.

والمثير أيضا في هذه المذكرات، أنها نقلت بعض الجوانب المتعلقة بمصاعب البعثات الأجنبية الأولى في المغرب، خصوصا بعثات الأطباء والقناصلة. إذ كان عليهم الفوز أولا بثقة المخزنيين المغاربة من قياد وموظفين في دواوين الوزراء. وكان شائعا في أوساط هؤلاء الأجانب أن الفوز برضى المخزن يعادل النجاح في الوصول إلى نجوم السماء. إذ رغم نجاح بعضهم في ربط الاتصال برجال المخزن إلا أنهم كانوا يدركون جيدا أن أغلبهم لم يكونوا يطيقون الأجانب، ويتخلون عنهم في أول امتحان.

رغم مرور قرابة القرنين على أولى محاولات ترسيخ الوجود الأجنبي في المغرب، ومرور قرابة 115 سنة على تجربة هذا المغامر «آشميد بارتليت» في المغرب، إلا أنها تبقى واحدة من أجرأ الكتابات عن المغرب وأكثرها إثارة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى