
على الرغم من التحذيرت التي وجهتها السلطات الفرنسية للمواطنين، بعدم النزول إلى الشوارع والتظاهر في إطار الإجراءات الاحترازية بسبب فيروس كورونا، إلا أن المتظاهرين غطوا الشوارع الفرنسية في مدن عدة، احتجاجا على عنصرية وعنف الشرطة ضد المواطنين من الأقليات الإفريقية والعربية. وذلك تضامنا مع الاحتجاجات في الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب مقتل جورج فلويد، وتكريما لروح آداما تراوري الذي قتل، حسب تقرير أخير، على يد الشرطة الفرنسية.
«تشير بعض التقديرات إلى أن ما بين 7 و12 شخصا يقتلون سنويا على يد الشرطة، معظمهم من الفرنسيين من أصول إفريقية وعربية». لذلك لم يكن مستغربا، بعد مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصول إفريقية على يد شرطي أمريكي، أن تندلع صدامات، ليلة الثلاثاء الماضي، في باريس إثر تظاهرة محظورة شارك فيها حوالى 20 ألف شخص، للاحتجاج على عنف الشرطة الفرنسية والعنصرية. وهي التظاهرة التي نظمت بمبادرة من أقارب شاب أسود، قتل أثناء إيقافه في سنة 2016. ورغم أن السلطات حظرت هذه التظاهرة بسبب أزمة فيروس كورونا المستجد، إلا أن المنظمين أصروا على النزول إلى الشوارع تنديدا بعنف الشرطة، في صورة احتجاجات كالتي تحدث في شوارع الولايات المتحدة، منذ أسبوع، تمثلت في تظاهرات عنيفة وأعمال شغب، احتجاجا على مقتل المواطن ذي الأصول الإفريقية اختناقا تحت ركبة شرطي أبيض في مدينة مينيابوليس الأمريكية.
ولم تكن باريس المدينة الوحيدة التي شهدت هذه الاحتجاجات، بل امتدت إلى مدن فرنسية عدة، من بينها تظاهرة في ليل (شمال) شارك فيها 2500 شخص، وأخرى في مرسيليا (جنوب) شارك فيها 1800 شخص.
دعوة من أخت تراوري
نظمت المظاهرات بدعوة من آسا تراوري، شقيقة آداما تراوري، والناطقة باسم لجنة «الحقيقة لآداما»، الشاب من أصول إفريقية الذي قتل أثناء إيقافه في العاصمة الفرنسية في سنة 2016، كتكريم له ودعما للأمريكيين الذين يتظاهرون ضد وفاة جورج فلويد في ولاية مينيسوتا الأمريكية. وفي كلمة خاطبت فيها المتظاهرين بالقول: «اليوم، عندما نناضل من أجل جورج فلويد، نناضل من أجل آداما تراوري». ورد المتظاهرون بالقول: «ثورة» و«الجميع يكرهون الشرطة». ورفع المتظاهرون لافتات كتب على بعضها بالإنجليزية «حياة السود قيّمة»، وبالفرنسية «صمت= اختناق» و«فلنضع حدا لاستعمار الشرطة»، و«ثورة» و«الجميع يكرهون الشرطة». وأوضحت آسا تراوري أن «ما ندينه في الولايات المتحدة يحدث مثله تماما قي فرنسا. في فرنسا الأمر أسوأ، ففي الولايات المتحدة تمت إقالة الشرطيين، في فرنسا تمت مكافأتهم».
وأوضحت أن المظاهرة كانت سلمية إلى أن قامت الشرطة بإطلاق غاز الفلفل على المتظاهرين، من على سطح أحد المباني. وحملت تراوري قائد شرطة باريس، «ديديي لالمان»، مسؤولية أحداث العنف التي اندلعت خلال المظاهرة.
قصة تراوري
تفجرت مأساة عائلة تراوري في 19 يوليوز 2016، عندما سعت قوات الأمن بضاحية بومون سو واز الشعبية، شمالي باريس، إلى اعتقال واستجواب باغي، الأخ الأكبر لآداما، في قضية اختلاس أموال. وكان آداما (24 عاما) ساعتها برفقة أخيه، فلاذ بالفرار عند رؤية عناصر الدرك تقترب منهما، لتبدأ عملية مطاردة انتهت بإيقافه ونقله إلى ثكنة بمدينة برسان المجاورة.
وفقد آداما الوعي خلال نقله إلى الثكنة، ليلفظ أنفاسه الأخيرة داخل أسوارها بعد عملية الإيقاف بساعتين. وحددت بعض المصادر ساعة الوفاة، بعد الثامنة مساء بقليل. وفور علمها بوفاته لم تتردد عائلة تراوري في اتهام عناصر الدرك بالتسبب في موته، ما فتح الباب أمام معركة قضائية شائكة لا تزال متواصلة. وتميزت هذه المعركة أساسا بتحقيقات طبية وتحقيقات مضادة، اختلفت نتائجها في كل مرة.
وبعد تسلم الجثة، تم دفن آداما تراوري في 7 غشت 2016 بمقبرة كالابونكرو بأحد أحياء العاصمة المالية باماكو، حيث أصل أوليائه، غير بعيد عن قبر والده المتوفى في عام 1999.
وكان آداما على ما يبدو معروفا لدى القضاء، لكن المعلومات المتعلقة بسجل سوابقه الجنائية متضاربة، حسبما ما وردت من العائلة أو من الشرطة. ولم يعرف عنه الكثير لا قبل مأساة وفاته ولا بعدها. ولكن الأهم ليس في السوابق الجنائية، بل في أسباب وفاة هذا الشاب.
فبالنسبة إلى عائلته، ما من شك أن عناصر الدرك قد تسببت في موته جراء «تقنيات» الإيقاف والاعتقال التي استخدمتها، والتي تشبه إلى حد كبير ما أدى إلى وفاة جورج فلويد في مينيابوليس، أي تثبيت المشتبه فيه أرضا وإلقاء (رجال الأمن) الثقل عليه. أما الشرطة، فرفضت الاعتراف بأي مسؤولية في موته، قائلة إنه كان يعاني من مرض القلب، مستندة في ذلك إلى تحقيقات الطب الشرعي التي أمرت بها النيابة العامة.
تقرير طبي
جرى أول تحقيق طبي في موت آداما تراوري غداة وفاته، وشدد إيف جاني، وكيل الجمهورية في مدينة بونتواز (حيث مقر إقليم فال دواز، شمال باريس)، يومها على أن عناصر الدرك لم ترتكب أي هفوة من شأنها أن تكون وراء موت الشاب. وأكد جاني أن آداما كان يعاني من «التهاب طال عدة أعضاء في جسمه». إلا أن مجموعة من الخبراء أجروا تحقيقا مضادا، بعد أسبوع من التحقيق الأول، وأكدوا أن وفاة تراوري وراءها «أعراض اختناق»، ما أدى إلى التشكيك في نية وكيل الجمهورية. وعلى إثرها، تكلف قضاة باريسيون بالقضية.
وفي شتنبر 2016، أجري تحقيق آخر خص «أعضاء» آداما تراوري، وخلص إلى ربط موته بمرض القلب الذي كان يعاني منه. لكن تحقيقا مضادا (خص الأعضاء أيضا) بتاريخ 3 يوليوز 2017، أكد فرضية «الموت باختناق»، دون أن يحدد مسؤولية عناصر الدرك فيها.
وفي 14 شتنبر 2018، قام مجموعة من أربعة خبراء بتحقيق أكد تبرئة عناصر الدرك، معتبرين أن آداما تراوري كان في وضع صحي حرج، قبل وصولها إلى المكان الذي اعتقل فيه. وقالوا إنه توفي جراء مرض وراثي تسبب في اختناقه، بعد «جهد بدني» (أي إثر فراره). وأغلق القضاة ملف تراوري، في نهاية 2018، دون توجيه أي تهمة إلى عناصر الدرك.
لكن عائلة آداما تراوري لم تستسلم. فقد كشفت في 11 مارس 2020 عن تقرير طبي قام به أربعة أخصائيين كبار بمستشفيات باريس بطلب منه، واصفين نتائج التقرير السابق بأنها مجرد «تأويلات نظرية»، وطلبوا مواصلة التدقيق في فرضية الاختناق.
وعلى إثر هذا التحقيق، أمر القضاء بتحقيق جديد صدرت نتائجه في 24 مارس الماضي، واستبعدت الموت باختناق. وردت عائلة تراوري بتقرير طبي، يؤكد موت آداما «باختناق».
وجاءت الاحتجاجات إثر صدور التقرير الأخير، الذي تم بطلب من عائلة تراوري لمختصين مستقلين، رجحوا أن يكون الاختناق سببا لوفاة آداما، جراء ثقل ثلاثة شرطيين على جسمه الممدود على الأرض، الأمر الذي قد يؤدي إلى تجريم رجال الشرطة، الذين قاموا باستجواب الشاب صاحب 24 ربيعا. فتأتي قضية تراوري لتسلط الضوء على طرق الاستجواب العنيف المستخدمة من قبل الشرطة.
وفي 19 يوليوز 2016 مات تراوري داخل ثكنة للدرك، بعد ساعتين من إيقافه في منطقة باريس، في ختام عملية مطاردة أمنية نجح في مرحلة أولى في الإفلات منها.
وقد شبهت شقيقة آداما مأساة أخيها بقضية الأمريكي جورج فلويد، الذي توفي خنقا تحت ركبة شرطي، أمام أنظار المارة. وقالت آسا تراوري مخاطبة الحشود أمام قصر العدالة إن الاحتجاجات هي لروح فلويد وتراوري كذلك، وإن الهدف موحد.
ويقول محامو اثنين من عناصر الشرطة الثلاثة المتورطين، إن الوفاة لم تنتج عن ظروف اعتقاله، ولكن بسبب عوامل أخرى مثل حالته الصحية. بينما تقول عائلة تراوري إنه مات من الاختناق بسبب تكتيكات الشرطة، وإن كلماته الأخيرة كانت أيضا «لا أستطيع التنفس».
عنف الشرطة
بعدما حظرت شرطة باريس التجمع، قبل ساعات قليلة من بدئه، مشيرة إلى قيود الفيروس التي تمنع تجمع أكثر من 10 أشخاص، دارت صدامات بين قوات الأمن وجمع من المحتجين، تخللها إلقاء مقذوفات وإقامة حواجز ومتاريس واستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع. وبعدما تفرق المتظاهرون، اندلعت اشتباكات متفرقة بين قوات الأمن ومجموعات صغيرة من المحتجين، الذين رشقوا الشرطة بالحجارة، لترد الأخيرة باستخدام بنادق الكرات الوامضة ضدهم.
وسرعان ما تحولت الشوارع المجاورة إلى ما يشبه ساحة حرب، حيث نصب المحتجون حواجز وأحرقوا دراجات هوائية، ورشقوا سيارات الشرطة بالحجارة والقوارير وأضرموا النار في عدد من حاويات النفايات والمتاريس، مما استدعى تدخل فرق الإطفاء لإخماد النيران. وفي منطقة كليشي المجاورة حطم محتجون زجاج مركز الشرطة البلدية.
تهديدات واعتقالات
تعهد كريستوف كاستانير، وزير الداخلية الفرنسي، أول أمس الأربعاء، بأن «كل خطأ وتجاوز وكلمة، بما في ذلك العبارات العنصرية» سيخضع لـ«عقوبة»، وذلك غداة تظاهرات خرجت في مدينة باريس للتنديد بـ«عنف الشرطة»، في أعقاب الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة.
وقال كاستانير أمام مجلس الشيوخ الفرنسي: «لن أتهاون في هذا الشأن»، في وقت أشعلت وفاة الأمريكي جورج فلويد، بعد أن جثم شرطي أبيض في الولايات المتحدة على رقبته، غضب الفرنسيين الذين نددوا باستخدام الشرطة للعنف بحق الأقليات.
واعتقل 18 شخصا في باريس خلال صدامات على هامش تجمع محظور نظم، مساء الثلاثاء الماضي، بدعوة من لجنة دعم عائلة الشاب الأسود آداما تراوري، الذي توفي في سنة 2016 بعد إيقافه من طرف الشرطة. وقالت الشرطة إن حوالى 20 ألف شخص شاركوا في التظاهرة في العاصمة الفرنسية، موضحة أن 17 من الذين اعتقلوا أوقفوا على ذمة التحقيق.
منظمات تعلن التضامن
في حين تحتدم الاشتباكات العنيفة بين المحتجين والسلطات في الولايات المتحدة، تجمع نشطاء مناهضون لوحشية الشرطة بالآلاف، دعما لحركة «أرواح السود لها قيمتها»، في كل من هولندا وبريطانيا وألمانيا ومدن إفريقية. وسلط المحتجون السلميون الضوء على مزاعم تعرض السجناء من أصول إفريقية لانتهاكات والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي، الذي يرجع للماضي الاستعماري لهولندا وبريطانيا وفرنسا.
وفي لندن، حمل محتج لافتة كتب عليها «المملكة المتحدة ليست بريئة»، بينما احتج نحو ألفي شخص خارج السفارة الأمريكية في برلين، ارتدى اثنان منهم من لاعبي كرة القدم في الدوري الألماني قميصين كتب على كل منهما «العدالة لجورج فلويد»، الذي قتل الاثنين الماضي.
وجاءت رسالة مماثلة من دومينيك سوبو، رئيس المنظمة غير الحكومية «إس.أو.إس ريسيزم»، التي نظمت احتجاجا صغيرا خارج السفارة الأمريكية في باريس. وقال: «هذه القضية الخاصة بعنصرية الشرطة، ولو بمستوى أقل من العنف، قضية تهم فرنسا. في الأسابيع القليلة الماضية شهدنا زيادة في القضايا والحوادث، التي لم تلق ضوءا طيبا على الشرطة»، وفقا لوكالة «رويترز».
وذكر نشطاء أنه وسط العزل العام المتصل بفيروس كورونا، تعاملت الشرطة بوحشية مرات عدة في الأحياء، التي يسكنها أصحاب الدخول القليلة وهم من أصول إفريقية.
وفي نيروبي، رفع المحتجون أمام السفارة الأمريكية لافتات، كتب عليها «أرواح السود لها قيمتها»، و«أوقفوا أعمال القتل خارج القانون».
وقالت منظمة الاحتجاج «نافولا وافولا»، إن العنف ضد من هم من أصول إفريقية دولي، وأشارت إلى قتل مسجونين في كينيا. وأضافت: «النظام الذي يسمح للشرطة بارتكاب أعمال وحشية في كينيا، قائم على الطبقية. وفي أمريكا عرقية وطبقية».
وفي الأيام المقبلة سيتم تنظيم احتجاجات، في غامبيا، بريطانيا، إسبانيا والبرتغال.
+++++
نافذة
يقول محامو اثنين من عناصر الشرطة الثلاثة المتورطين، إن الوفاة لم تنتج عن ظروف اعتقاله، ولكن بسبب عوامل أخرى مثل حالته الصحية. بينما تقول عائلة تراوري إنه مات من الاختناق، بسبب تكتيكات الشرطة، وإن كلماته الأخيرة كانت أيضا «لا أستطيع التنفس»