شوف تشوف

الرئيسية

وزير في قائمة المنسيين

أجمعت تقارير أمنية، سبقت تشكيل حكومة كريم العمراني في أبريل 1985، على أن رئيس بلدية الصويرة الطاهر عفيفي، القيادي في «الاتحاد الدستوري» ذو تأهيل علمي في أصول الدين والشريعة، وأنه رجل ميدان خبر العمل السياسي منذ فترة طويلة.
بهذه المواصفات توج الراحل عفيفي مساره بتعيينه وزيرا منتدبا مكلفا بالعلاقة مع البرلمان. ما أثار تساؤلات حول الجهة التي دفعت به إلى أعلى، وهو الذي لم يفكر يوما في تسجيل اسمه على قوائم الوزراء، لأنه كان يعرف أن مجاله الحيوي الذي يتنفس فيه دون هواء اصطناعي أو منشطات عضلية هو العمل الحزبي في إطاره التنظيمي. فالرجل الذي بسط نفوذا في الصويرة، بدعم من الجهات إياها التي كانت تصنع الخرائط النيابية والمحلية، استحال إلى قاطرة تجر التابعين. ومن كان بلا دعم أو وصية، ما عليه إلا أن يبتعد عن المجال.
أليس هو من قاد الحملة الانتخابية للمترشح أوحنا جوحنا، ومكنه، من حيث الإجراءات الشكلية، من مقعد نيابي في دائرة في الصويرة، على رغم أن الأخير اكتفى ببث أشرطة مصورة يعرض فيها إلى برنامجه الانتخابي؟ أليس هو من أقنع قيادة «الاتحاد الدستوري» في بدايتها بأن رجل الأعمال ميلود الشعبي أقرب عقلا وقالبا إلى حزب جيل ما بعد الاستقلال، على حد الوصف الذي كان ينعت به التنظيم الناشئ؟ أليس هو من كان يحمل بعض الرسائل المشفرة ويطوف بها بين الديوان الملكي والداخلية، بما كان يكفل له قدرة عجيبة في القفز على الحبال؟
فالرجل الذي كان قيما على مقبرة في الدار البيضاء، وفق عارفيه، استطاع أن يضمن لنفسه حيزا بين الأحياء في عالم السياسة الذي لا يتطلب تأشيرات متشددة المعايير. إذ في إمكان بائع الفحم أن يفند حضور زعيم سياسي بارز عند احتساب أصوات الناخبين التي كانت تختلط فيها تراجم الأحياء وقبور الموتى. كما في إمكان نقابي مغمور أن يصعد إلى منصب الوزارة على أكتاف مناصريه في النقابة، ويطلق وعوده وتعهداته بالثلاث كما يقال.
ذهل رفاقه لتعيينه، منهم من رأى أن المستشار المتنفذ أحمد رضا كديرة أوفى لصداقة الرجل، منذ كان يسهر على تنظيم تجمعاته الحزبية أيام «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية». ومنهم من رهن الترقية برد جميل من طريق وزير الداخلية الراحل إدريس البصري. وآخرون اعتبروا الأمر نكاية في الحزب الذي حاول بعض قيادييه التكشير عن أنياب في مواجهة السلطة. استفسرته عن حقيقة الأمر فرد بالقول: «أنا صديق الجميع» وفهمت أنه استخدم ذكاءه في الإيحاء لأطراف متنفذة بأنه رجل كل المهمات. فقد علمته التجربة أن الوسطاء يمكن أن يفكروا في أنفسهم عندما يتعدد الاختيار.
عندما تعددت أخطاؤه، من الصويرة إلى لندن، مرورا بالبرلمان، نأت الأطراف كافة بنفسها بعيدا من أن يكون لها ضلع في الدفع بالرجل إلى الواجهة. فقد تصورت الداخلية أنها ترضي المتربع على عرش الاستشارة في الديوان الملكي، كما اعتقدت الأخيرة أن عدم وضع «الفيتو» على توزير الطاهر عفيفي يرضي الداخلية. ولم يكن تسلله سوى حالة شرود تحدث عند الانشغال بملفات يبدو معها تعيين وزير أو سفير مجرد حادث عارض. لا فرق بين دعم ترشيح دبلوماسي إلى سفارة في بلد أوربي، من أجل تمكينه من فرصة تلقي العلاج، أو وضع اسم مترشح على قائمة الوزراء اعترافا بتقديمه خدمة ما.
في يوم واحد صدر قرار بإعفاء الأستاذ الجامعي الطاهر المصمودي من وزارة التجارة، لأنه دخل في صراع مع لوبيات لا تريد الإذعان لسلطة القانون، ومن أجل تكييف أخطائه صورت على أساس أنها تروم إحياء نعرات شبه قبلية. عاد المصمودي إلى التدريس ولم يقدر على نسيان الذين خذلوه، فقد كان أكثر اندفاعا بخلفية أن هناك من يحمي ظهره. والحال أن الطاهر عفيفي أراحه إعفاؤه كما أراح الآخرين، فقد تسلق الشجرة العالية ونسي تأمين العيوب التي تظهر من تحت.
من بين الكثير من الوزراء احتفظ عفيفي بما تعلمه من مراس حزبي، فقد اعترض مرات عدة على مواقف الوزير الأول عز الدين العراقي إلى درجة أنه كان يواجهه في مجالس حكومية. وكانت تلك من بين الأخطاء التي لم يغفر له العراقي. أسر لي مرة أن هذا الأخير تغير منذ أصبح نائبا للوزير الأول، بينما كان عفيفي يصر على معاملته بمنطق الند للند، مع أنه كان وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول. وخلفه في منصبه عبد السلام بركة الذي سيشغل لاحقا سفيرا للمغرب في مدريد ثم الرياض. بينما خلف عبد الله أزماني رفيقه في الحزب الطاهر المصمودي الذي راح ضحية حادث سير قاتل.
قبل بضع سنوات تلقيت مكالمة هاتفية من الطاهر عفيفي، ذكرني عبرها بجلسة طال فيها الحديث حول الفن والتقاليد. كان وعدني بالكشف عن «أسرار» تطول العمل الحكومي ودهاليز السياسة، ولم أستوعب أنه كان يرمي بشباكه بعيدا. في تلك المكالمة أخبرني أن نجلته بصدد إعداد بحث أكاديمي حول التجربة المسرحية في المغرب. وتمنى علي أن أسعفها ببعض المراجع والعناوين، قال إن نجلته ستنوب عنه في فعل ما لم يتأت له.
بدا لي من حديثه إنسانا آخر. توارت ضحكته وطرائفه ومجالسه، فقد عاد إلى الصويرة ليبدأ حياة جديدة، لكن في غياب أصدقاء كثر. لم يعد يتلقى مكالمة من صديقه في الديوان الملكي، ولم تعد العناوين هي نفسها، كما في متغيرات أحوال الطقس بين المواسم. ووجدت أن المرور عبر الوزارة مثل عدوى التلفزيون. هناك من يحسبه بقياس الفترات والمتغيرات، وهناك من يتوقف لديه الزمن. ولا يبقى من سمات التكليف سوى احتساب مردودية التقاعد. مع أن أصل الوزارة من تحمل الأوزار، أي المساعدة في حمل الأعباء. فهي وظيفة وليست مهنة دائمة، ولو أن بعض الوزراء لم يمتهنوا غيرها من المهد إلى اللحد.
لكن الطاهر عفيفي كان يملك روحا فنية، ويروق له أن يتحدث عن عالم الفن. ألم يكن الموسيقار الراحل عبد السلام عامر صهره الذي أثر فيه وتأثر به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى