
نعيمة لحروري
في زمن انقلبت فيه الموازين، لم يعد الستر فضيلة ولا الكتمان حكمة. صارت البيوت تفتح على مصاريعها، لا لضيف كريم ولا لقريب حميم، بل لعدسات جامدة تسترق أنفاس الخصوصية وتحولها إلى مقاطع مبثوثة على قارعة الطريق.
هنا حيث يسكن “الأدسنس”، تباع الحكايات العائلية كما تباع الخردة، وتستبدل القيم بعداد مشاهدات لا يرحم.
ما أقسى أن ترى إنسانا يحول جرحه إلى مسرح، يبكي على خلاف مع زوجته تحت ضوء الكاميرا، أو يسرد تفاصيل فراشه كأنها خبر عاجل، أو يفضح أهله وهو يبتسم ابتسامة باردة يطلب من ورائها دعما واشتراكا.
هكذا صار العرض اليومي للفضائح بديلا عن الرزق الشريف، وكأن الكرامة لم تعد تاجا على الرؤوس، بل رقما في حساب بنكي.
ثم يطل علينا صنف آخر لا يقل عبثا: فرسان النضال الافتراضي. أولئك الذين يتشدقون بالحديث في السياسة والاقتصاد والدين، يوزعون الأحكام بجرأة الجاهل، ويقلبون الحقائق عمدا، ثم يزعمون أنهم حماة الحق وحراس الوطن. كلامهم صاخب، لكنه أجوف، أشبه بقرع الطبول في فراغ الليل. إنهم تجار الغضب الشعبي، يحولون القضايا الكبرى إلى عروض مسرحية رخيصة، والنضال الشريف إلى سلعة موسومة بعبارة: “لا تنسوا الإعجاب والاشتراك”.
الطامة الكبرى ليست في هؤلاء، بل في الجموع التي تهرع خلفهم بشهية غريبة، تتلذذ بسقوط القيم كما يتلذذ الطفل بكسر لعبته. صار المشاهد يطلب المزيد من الفضائح، يصفق للأكاذيب المعلبة، يفرغ وقته وجهده في متابعة الرداءة. وهكذا تغرس في الأذهان ثقافة جديدة: أن الشهرة طريقها الانحطاط، وأن التفاهة هي المعيار، وأن الحقيقة لا لزوم لها ما دام الكذب أكثر إثارة.
إنها ليست أزمة تقنية ولا مجرد انحراف عابر، بل انهيار بوصلة أخلاقية. حين يتخلى الإنسان عن احترام ذاته، ويعرض أسراره بملء إرادته، ويبيع حياءه في سوق علني، فإن المصيبة أعمق من شاشة زرقاء أو منصة بث. نحن أمام جرح قيمي يتسع كل يوم، تواطأت على تغذيته الخوارزميات التي تكافئ الانحطاط: كلما ازداد الصخب تضاعفت الإيرادات، وكلما ارتفع منسوب الفضيحة علت الأرقام في لوحات الإعلانات.
هكذا وُلد زمن أعوج، صار فيه الصمت خسارة، والوقاحة تجارة رابحة. زمن يكافأ فيه من يهدم الذوق، ويُهمَّش فيه من يحاول البناء. ومن لم يتقن الرقص في وحل الرداءة سيظل صوتا ضعيفا يصرخ في واد بلا صدى.
ومع ذلك، فإن الخطر الأكبر لا يكمن في فضائح اليوم وحدها، بل في الغد الذي يصنع على أعيننا. جيل كامل ينشأ وهو يعتقد أن المجد يشترى بالمشاهدات، وأن الفضيلة عائق أمام النجاح، وأن النضال مسرحية لا أكثر.
جيل يرى في الكذب براعة وفي الوقاحة شجاعة، ويتخذ من “الترند” قبلة وغاية. فإذا استمر هذا المسار، فلن نكون أمام أزمة عابرة، بل أمام مجتمع بأكمله يفقد بوصلته الأخلاقية، وينشأ على أن الكرامة مجرد سلعة في سوق الأدسنس، تباع بأرخص الأثمان. وحينها، لن يبقى شيء يستحق الرثاء أكثر من إنسان باع ذاته، وأجيال ولدت بلا ذاكرة من القيم ولا وازع من ضمير.





