الرأي

اصنع علامتك

شامة

 

شعرت بالملل.. بملل شديد.. فحملت حاسوبي، وفتحت الأنترنت، ورحت أقلب على فيلم أجنبي أشاهده. لم أحتج وقتا كثيرا لأجد الفيلم الذي اخترته لكسر شعوري بالملل، كان عنوانه «ديناصور طيب»، وكان من نوع أفلام الكارتون التي أحب مشاهدتها أكثر من أفلام «البشر».

يبدأ الفيلم بمشهد لديناصور ضخم يقوم بسقي حقل أخضر كبير، وبينما هو منهمك في عمله، يسمع صوت «زوجته» تناديه وتقول: «تعالى، لقد حان الوقت». يترك الديناصور الزوج ما بين يديه ويهرول إلى حيث بيت الزوجية، هناك فوق كومة قش وقف الثنائي ينظر لثلاث بيضات، فقست الأولى فخرج منها ديناصور مشاغب، وفقست الثانية فخرج منها ديناصور شرس، ووقف الثنائي ينتظر أن تفقس البيضة الثالثة، وقفا كثيرا، وحين ملا من الانتظار، فكرا أن السبب قد يكون أن حجم البيضة الثالثة كبير، وأنها ستولد عن ديناصور ضخم وقوي، لذلك فالديناصور الثالث يحتاج وقتا للخروج إلى العالم، لكن الديناصور خرج صغير الحجم، لين العظام، ضعيف البنية، و.. جبانا.

يكبر الأطفال الثلاثة، ويكبر الجبن في قلب أصغرهم. يأتي يوم يقرر فيه الديناصور الأب أن يضعوا علامات خاصة بكل واحد منهم، على حائط طيني، يتمكن الديناصور الأب والأم والإخوان من اعتلاء الحائط، ووضع علامة بأقدامهم عليه، العلامة كانت تعبيرا عن أنهم أقوياء بما يكفي، وناضجون بما يكفي، إلا الصغير، عجز عن اعتلاء الحائط، وبالتالي لم يستطع أن يترك عليه علامته الخاصة، وهو ما يعني أنه سيمر من هذه الحياة كأي عابر لا أثر له، وكأنه لم يوجد من قبل.

يقرر الديناصور الأب أخذ صغيره في رحلة خارج المنزل، وفي يوم عاصف ممطر، ويقول له: «عليك أن تتعلم مواجهة الحياة أن أردت أن تعيش»، لكن العاصفة كانت قوية، والمطر أقوى، ففتك الفيضان بالوالد، وعاد الديناصور وحيدا يتيما إلى منزل أمه وإخوته، لم يلبث هناك طويلا، فمعاملة إخوته السيئة له، وشعوره بالذنب تجاه والدته جعله يرحل بعيدا، وفي رحيله ذاك، يواجه صعوبات الحياة بعيدا عن منطقة الأمان التي كان يعيش فيها ولا يستطيع مفارقتها وهي منزل العائلة.

 

لكن صعوبات الحياة تلك التي اضطر مجبرا لمواجهتها بدل الفرار منها، وتفضيل البقاء في منزل العائلة الذي يوفر له الأمان، هي ما جعلته ديناصورا قويا، وجعلته يعود إلى بيت عائلته، هذه المرة، شجاعا وجريئا، فاهما للحياة وقادرا على مواجهة مفاجآتها، وجعلته يستطيع أخيرا أن «يصنع علامته»، أن يصبح لمروره في الدنيا أثر.

أحببت الفيلم، وأحببت الديناصور الصغير، وأحببت والده الذي لعب دورا نفتقده في آبائنا، وقد نكون نفتقده في أمهاتنا. فأغلب أبناء هذا البلد ربتهم أمهاتهم على «سير لحيط لحيط»، و«عنداك… حضي راسك… متيقش… وايااااك… هااااودني منك»، في الوقت الذي يسجل الوالد في حياة أغلب أبناء هذا البلد غيابا كبيرا، كبيرا لدرجة الفراغ.

ولدت في عائلة مغربية تقليدية، الأم فيها هي الراعي الحقيقي، تكنس، تطبخ، تلد، تربي، وتسير أمور المنزل في أحلك الأوقات. والوالد فيها يعيش حياته بالطول والعرض مع بعض من الإحساس بالمسؤولية. أخذت من أمي الكثير من الطيبة والكثير من الخوف، والكثير من الإصرار على عدم مغادرة المنزل، وعلى البقاء في بر الأمان: المنزل. وأخذت من والدي الكثير من العصبية، والكثير من العناد، والكثير من الاندفاع، والكثير من الأنفة والكبرياء، وحين فقدت والدي، فقدت الإحساس بالأمان، وأصبحت مضطرة للخروج من بر الأمان، ومواجهة شعوري بعدم الأمان.

حكايتي جزء كبير منها يشبه حكاية «الديناصور الطيب»، وقد تشبه حكاية الكثير من أبناء هذا الوطن، ولدنا على أرض حين كبرنا أردنا أن نعيش على أرض غيرها، وولدنا في زمن غير الذي أخبرونا عنه حين كنا صغارا، ورموا بنا إلى غياهبه مع كثير من التحذيرات من الأم، وكثير من الإهمال من الأب، وتكلفت الحياة بتلقيننا بكل قسوة دروسا غير التي لقنتنا الأم والأب.

أول اختبار من الحياة واجهته في حياتي بعد وفاة والدي هو نصائح المعزين، أغلبهم اتفقوا أن علي التوقف عن الدراسة، وإيجاد زوج لي لأنه لم يعد لي رجل بعد أبي، وأن أخي سوف يتنكر لي حالما يجد لنفسه زوجة. ثاني اختبار واجهته في يوم الوفاة نفسه، كان إكمال دراستي، توفي والدي وأنا أجتاز امتحانات السنة الثالثة من الجامعة، اجتزت الامتحان وأنا ألطخ ورقة الاختبار بالدموع، وحين حصلت على ورقة النجاح والمرور إلى السنة الرابعة والأخيرة، أتى المعزون ثانية لينصحوني هذه المرة بضرورة ترك الدراسة، وإيجاد عمل كيفما كان حتى أستطيع إعالة نفسي، وأن أخي لن يعيلني مدى العمر.

الحياة كانت تخبئ لي الكثير من المفاجآت، أكملت دراستي رغم أني لم أرد يوما أن أدرس بالجامعة، التحقت بسلك الدراسات العليا رغم أني لم أرد يوما أن أدرس أكثر من الإجازة، كل ما أردته أن أدرس الصحافة ليس حبا في الصحافة، لكن لأتمكن من السفر حول العالم، أن أجوب العالم، وألتقي الناس من كل الثقافات كان حلمي، لكني لم أكن لأجرؤ على البوح به، أمام مطالب بأن أتزوج في أسرع وقت، وأن أشتغل في أسرع وقت.

الحياة خبأت لي مفاجآت كثيرة، أغلبها كانت قاسية، قاسية جدا، وأقساها أن تجد نفسك وحيدا، بدون مال ومع كثير من الكبرياء.

الحياة كانت معلما قاسيا، جعلتني أكسر تحذيرات والدتي بـ«المشي لحيط لحيط»، وأن أخرج للعلن، وجعلتني أعتبر عدم رغبة والدي في تحمل المسؤولية ليس عيبا بقدر ما هو صراحة قاسية.

الحياة كانت قاسية، لكن الآن، وأنا أتأمل نفسي، أشكرها لأنه لولا قسوتها تلك لما صنعت نفسي بنفسي، لما جعلت لنفسي علامة، لما جعلت لمروري في هذه الدنيا أثرا.

رسالة فيلم «ديناصور طيب» لخصت معنى الحياة، لكي تصبح قادرا على صنع علامتك بنفسك، عليك أن تخرج من دائرة الأمان، وتستسلم لسوط الحياة، ستتألم، سيترك الألم جروحا على جسدك، لكنك ستصبح أقوى، ستصبح قادرا على أن تعيش، ستصبح قادرا على أن تصنع علامتك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى