شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الإعلام الفرنسي والحرب ضد غزة

 

 

سلام الكواكبي

 

 

لمجرد كتابتي العنوان أعلاه، وفي صحيفة عربية، فأنا أُعرِّضُ نفسي فرنسيا إلى عقوبة مالية، أو إلى سجن ستة أشهر، وعقوبة مالية تُضاف إليه، وذلك بتهمة الاستخفاف بحجم مأساة الضحايا، وبالتالي، مساندة الجلادين العرب. وفي أفضل السيناريوهات، سأنال نصيبا مستداما من الشتائم والتنديد والاتهامات التي ستجمع بين معاداة السامية، وتأييد الإرهاب، والانتماء إلى الجماعات الراديكالية. فالحديث اليوم عن «حرب» ضد غزة صار من المحرمات، التي يجدُر تجاوزها والالتفاف عليها. وعلى النمط الشمولي، صار الخطاب الإعلامي الفرنسي الرئيسي مرددا عبارات موحدة، وكأنها صدرت في أمر صباحي حري بالثكنات العسكرية. على ماذا ينص هذا الأمر؟ إنه، في الغالب، ينص على تحديد الأوصاف الموجب استخدامها في صياغة الأخبار وفي التعليق عليها، فكما كان يُقال سابقا إن الجيش الإسرائيلي قصف حاضرة فلسطينية وقتل العشرات وجرح المئات، في «رد» على إطلاق صاروخ مُصَنع يدويا سقط في صحراء خالية، فإنه اليوم «يردُ» على عملية عسكرية معقدة ومُحكمة أوقعت مئات من القتلى والجرحى في صفوف العسكريين والمستوطنين والمدنيين.

يتضمن هذا «الأمر اليومي»، المتجدد منذ السابع من أكتوبر الحالي، تشديدا على ضرورة استعمال عبارات «الإرهاب والإرهابيين» في الحديث عن الفعل وعن العناصر التي اقتحمت حائط الفصل العنصري ووطأت أقدامها أراضي الأجداد التي سلبها الصهاينة، وألقوا سكانها في مخيمات اللجوء ضمن شريط أضيق من أرض فلسطين الذي اسمه قطاع غزة. وفي المقابل، لا إرهاب دولة عند التطرق إلى القصف الإسرائيلي العشوائي على المدنيين وقتلهم بالمئات، فهنا إسرائيل تستخدم «حقها» في الدفاع عن النفس ضد «الإرهاب» ليس إلا. إنها تواجه «وحوشا» و«حيوانات بشرية» تقتل من دون تمييز. ومن المحتم ألا ترد عبارة مستوطنة في الحديث عن النقاط التي هوجمت، فإما هي مدن أو كيبوتزات. أما الحفل الموسيقي، فبعد أن اكتفى الإعلام بتوصيفه كذلك في بداية التقارير الإخبارية، أُضيف إلى عنوانه «من أجل السلام»، لكي يُستنكر هذا العمل «الوحشي» ضد فتيان وفتيات يحتفلون بالسلام على بعد مئات الأمتار فحسب من أرض تضم أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف فلسطيني مُعرضين لحصار وحشي، منذ ما يقارب 17 عاما. وقد هيمن توصيف الحفل إنه «من أجل السلام» على كل الخطاب الإعلامي.

ومن الضروري التمييز بين محطات الأخبار المستمرة، والتي تبحث عن ملء ساعات طويلة من البث بما يجلب المشاهدين إليها ويرفع من دخلها الإعلاني، من جهة، والصحافة المكتوبة التي يمكن لها، وبشكل نادر، أن تنشر مقالات تحتوي على شيء من الإنصاف أو على الأقل تحاول أن تبتعد عن التجييش المهيمن تجاه الضحية. وأخيرا، هناك الإعلام «البديل» عبر الشبكة العنكبوتية الذي صار له جمهوره، وخصوصا من الجيل الشاب، والذي له بصمته الأكثر وضوحا على تشكل الرأي العام في فئات عمرية محددة. صار هذا الفضاء الإلكتروني مرتعا لكل الأطراف من دون حسيب سياسي ولا رقيب أمني، ولحسن الحظ ربما، ما أتاح لحقائق كثيرة أن تظهر للعلانية، كقتل الجنود الإسرائيليين أسرى عزلا من الفلسطينيين. كما فند أكاذيب كثيرة مُختلقة، كخرافة قطع الرؤوس وبقر البطون واغتصاب المستوطنات على سبيل المثال لا الحصر.

صارت «مدرسة» الديمقراطية الفرنسية معبدا للدعاية السياسية والأمنية الإسرائيلية التي تشوه الحقائق وتختلق الأكاذيب عن ممارسات الضحية، وتنضح بالأعذار والتبريرات للجلاد، مهما تنوعت أساليبه (وقست) في التعبير عن عنصريته وكرهه العربي الفلسطيني، مسلما كان أم مسيحيا أم ملحدا. فمشهد مستوطنين يهتفون أمام المسجد الأقصى «الموت للعرب»، تلبي حكومة الاحتلال طلبهم منذ 1948، يعكس قناعة راسخة لدى المتطرفين الإسرائيليين الذين يحكمون اليوم في تل أبيب، من النادر أن تنشره وسيلة إعلام غربية عموما، وفرنسية خصوصا. وإن عرضته قنوات عربية كـ«العربي» مثلا، فسيتم توجيه أصبع الاتهام إليها بأنها تركز على تفاصيل المشهد، لتأجيج الكراهية والتحريض على الآخر. هكذا وبكل بساطة، بل بكل وقاحة.

أمام هذا الإعلام غير العادل، والذي لا يكتفي بمساواة الجلاد بالضحية، بل هو يقلب الأدوار من دون أي وازع مهني أو أخلاقي أو إنساني، يحار المتابع الواعي في إيجاد تفسير لما يمكن تسميته التحيز لطرف معتد تاريخيا ضد طرف معتدى عليه غالبا، ليصبح هو الشيطان، لو أنه انتفض أمام شروط موته، فحقوق الإنسان التي يفهمها الغرب بشكل انتقائي وتمييزي هي تلك التي تُمنح للإنسان القاتل، وما على ضحيته إلا الركون لمصيرها المحتوم، وإلا، ستُدان بتهمة الإرهاب. والتفسير السائد لدى بعض الأوساط المؤمنة بنظرية المؤامرة يكتفي بالإشارة إلى تأثير لوبي صهيوني على أهم وسائل الإعلام. في المقابل، يبدو أن الأمر أعمق بكثير، حيث يمكن الإشارة إلى ارتباطه بإرث استعماري، ينظر من خلاله الرجل «الأبيض» إلى أبناء مستعمراته السابقة كأنصاف بشر. وأخيرا، يجدُر بالمرء التوقف، في الحالة الفرنسية بالذات، أمام تفسير هذه الجملة: المتعاونون السابقون مع النازية يناصرون ضحاياها السابقين الذين أضحوا جلادين، وذلك تعزيزا للنسيان.

 

نافذة:

صارت «مدرسة» الديمقراطية الفرنسية معبدا للدعاية السياسية والأمنية الإسرائيلية التي تشوه الحقائق وتختلق الأكاذيب عن ممارسات الضحية وتنضح بالأعذار والتبريرات للجلاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى