شوف تشوف

الرأي

الشباب والبحر

علينا الاعتذار بطبيعة الحال لصاحب «العجوز والبحر». فالرواية الجميلة التي حولتها الترجمة إلى نسخة عربية رديئة لتحفة أدبية، تخاطب في الإنسان أعماقا ربما لم يكن ليصل إليها أبدا، لولا نعمة القراءة.
لدينا علاقة غريبة بالبحر، ولا تقولوا لي إن المغربي عندما ينظر إلى البحر فإنه يتأمل ملكوت الله وشساعة المياه. عندما يتأمل المغربي البحر فإنه يبحث عن الأضواء أو اليابسة، لأنه موقن أن الحياة تبدأ بعد أن تجف الملابس من مياه العبور.
من الفضاء، يبدو البحر شرطيا يصادر أحلام البشر القاطنين أسفل أوروبا، يحمي الأوروبيين والأمريكيين والأستراليين من الشعوب المنكوبة مثلنا. لكننا رغم ذلك نبادر إلى العبور، مهما كلف الثمن.
لماذا لم يتحرك أحد عندما أطلق بعض الشباب، قبل أسابيع، تسجيلات يوثقون فيها عملية عبورهم السري بحرا إلى أوروبا، ويفضلون أن يلتهمهم السمك على أن تلتهمهم الحياة ببطء وهم يتشمسون قرب عائلاتهم في المغرب؟
أليس من الخطورة أن يسعى شباب في مقتبل العمر إلى وضع بيض الحياة كله في سلة واحدة وتعريضه للكسر الفوري، مقابل العبور نحو المجهول. ما يجعل الكثيرين يعبرون هو الصورة النمطية التي يملكها المغربي عن أوروبا، حتى بعد سماع قصص الفشل والعودة بعد انتشار الأزمة الاقتصادية، لا زال المغربي متفائلا بخصوص إمكانية النجاح في أوروبا، والحصول على الحقوق التي يفترض أن يصل إليها بنفس المجهود هنا في المغرب.
هنا يوجد متوحشو الأبناك والعقار، لذلك يعجز السواد الأعظم من المغاربة عن تحقيق حلم السكن الذي يعتبر حقا مضمونا في بقية بلدان الله. عليك أن تقتطع من عمرك مدة لا تملكها، وتهبها إلى البنك الذي يمنحك مال الدولة، ويحصل على الفائدة أولا ويضعها في جيبه، ثم يمنحك مسكنك بالتقسيط، وفور انتهائك من أداء الأقساط، سيكون عليك ترك مسكن الباطل والرحيل إلى دار الحق التي لم تعد هي الأخرى بالمجان.
يقولون إن أكثر من 98 بالمائة من المغاربة عاجزون عن الادخار، والحقيقة أن المغاربة يعيشون أيامهم في ملاحقة أيام الشهر، لذلك يستحيل أن تجد مغربيا يفكر في الأمور الجانبية التي تمنح معنى للحياة، لأنه منشغل كثيرا بالبقاء على قيدها.
حسب الجغرافيين، فإن الأرض كلها كانت بقعة واحدة، وربما قادها صراعها مع نفسها لقسمة إرثها الثقيل حتى تبقى جميع أطرافها راضية. وحسب القصة العلمية لهذا التقسيم، فإن أفريقيا، التي نقف فوقها الآن، كانت هي أصل البقع جميعا، ولا بد أن الذنب ذنبها عندما سمحت لأطرافها الأخرى بالابتعاد قليلا لتركها وحيدة محاطة بالمياه. وها نحن اليوم، باعتبارنا أحفادا غير محظوظين، نقف محاولين العبور برا وبحرا وفي المطارات، ولا يحالفنا الحظ جميعا في الوصول إلى الضفاف الأخرى لأرضنا الأم.
أصبحنا نشبه أولئك الأفراد الذين يظهرون بدون مقدمات على أبواب الآخرين ليخبروهم أنهم جزء من العائلة. لذلك يحترز الأوروبيون منا ويفتشوننا في نقط العبور وفي المطارات وفي الأماكن العمومية مخافة أن ننفجر في وجوههم.
عندما يأتي السائح إلى أفريقيا، فإنه يصل رحم أجداده، لذلك يغدق في الإكراميات في المقاهي والفنادق، ويتمشى ببطء على الأرض حتى لا يزعج أثر الموتى من أجداده.
وها نحن نبقى وحيدين في قارتنا التي لم تخبرنا بموعد الانقسام، لنقف في الجهة الخطأ ونضيع موعدنا مع الحظ. سيكون من المحزن حقا أن تطالع كل يوم خبر إرجاع مهاجرين مغاربة «غير شرعيين»، أو ترحيل آخرين كانوا شرعيين لمخالفتهم للقوانين. يبدو الأمر كمن يحمل نملة وصلت بعد عناء إلى الجهة الأخرى، وإعادتها إلى الأصل.
لقد غلبنا الماء وحال بيننا وبين التجوال، لذلك غرقنا في محاولات بئيسة لشراء أمتار بالتقسيط الممل، وقضاء الأمسيات في تصنع الشاعرية وتأمل البحر، والحال أننا صرنا عجائز نحاول استراق النظر إلى الأفق الذي ينتهي فيه الماء، وتبدأ حياة الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى