الرأي

الطريق إلى باماكو..

يونس جنوحي

الصور القادمة ليلة الخميس الأخير من مالي، لجثماني السائقين المغربيين اللذين قضيا في طريقهما إلى «باماكو» سوف تبقى موشومة في ذاكرة العائلات والسائقين المهنيين الدوليين الذين يقضون أزيد من نصف أعمارهم فوق العجلات.
إذ لا أحد يتحدث عن حياة هؤلاء السائقين الدوليين الذين يفارقون عائلاتهم لفترات طويلة ولا يعودون إلا لتوديعهم من جديد والعودة إلى الطرقات الطويلة بين الدول الإفريقية.
عندما برز مشكل «الكركارات» قبل أشهر، كانت العائلات المغربية التي يعمل معيلوها في مجال النقل الدولي على الطرق، قلقة للغاية بشأن السلامة الجسدية لمعيليها وهم يجتازون تلك النقطة للوصول إلى موريتانيا ومنها إلى الدول الإفريقية التي يربطها الخط البري لنقل البضائع، خصوصا الخضروات والفواكه، مع المغرب.
ولولا التدخل العسكري المغربي لتأمين المعبر، لاستمر قلق العائلات لمدة طويلة، خصوصا وأن هؤلاء السائقين تحدثوا كثيرا لعائلاتهم عن مغامراتهم مع مرتزقة البوليساريو وميليشياتهم حيث كانوا يتحرشون بسائقي الشاحنات المغربية ويرفعون أعلام البوليساريو في وجوههم عند المعبر وأحيانا يتلفظون بكلمات نابية لاستفزاز المغاربة، وكان هذا السيناريو يتكرر في كل مرة يعبرون فيها تلك النقطة.
والمثير أن هذا الحادث الذي أودى بحياة السائقين المغربيين وجعل حياة الثالث في حالة حرجة لولا الرعاية الطبية التي قدمت له وتعويض الدم الذي نزف منه، تزامن مع تعميم الانفصاليين وبعض المنصات الجزائرية لخبر مفاده أن الجزائر تعتزم فتح خط بري من موريتانيا إلى الجزائر عبر تندوف دون المرور عبر المغرب.
وكان فعلا هذا الخبر مثيرا للسخرية، بحكم أن السائقين المهنيين الدوليين يعرفون جيدا أن أنسب طريق يصلح لمرور الشاحنات الثقيلة للبضائع هو الطريق الحالي عبر المعبر من الحدود الموريتانية صوب مدينة الداخلة.
ولعل أكثر ما يفضح هذه الأكذوبة هو شكايات السائقين المهنيين الجزائريين الذين كانوا أول متضرر من أحداث «الكركارات». إذ إن أسعار الخضروات ارتفعت بأزيد من 200 بالمائة عندما أغلق المعبر ليتضح أنه أصلا كان الطريق الوحيدة أمام الشاحنات المتجهة إلى الجزائر.
ملابسات الحادث تفرض وجود نية إجرامية وراء الاغتيال. وربما كانت عصابة أو ميليشيات في «مالي» أو دولة من دول الجوار، تخطط لاغتيال أشخاص آخرين واستهدفوا السائقين المغاربة بالخطأ.
يبقى الموقف الإنساني لسكان القرية المجاورة لمكان الاعتداء في الطريق إلى «باماكو» راقيا، حيث نقلوا السائق الثالث إلى مستوصف بسيط ومتواضع وحرصوا على أن يتم إنعاشه إلى أن يتم إخبار السفارة المغربية في مالي. وهو ما يؤكد أن الرابط بين المغرب وبعض الدول الافريقية أكبر بكثير من فرقعة الرصاص في نقطة كيلومترية.
إذ إن بعض قبائل مالي تعتبر نفسها امتدادا للمغرب منذ أزمنة القوافل التجارية لسكان المغرب القدامى، حيث كانت قوافل مراكش تمر عبر «باماكو»، كما تمر اليوم الرحلات الجوية محترمة المسار القديم للقوافل المنقرضة.
ربما يكون هذا الحادث المؤسف فرصة للاستماع إلى مئات المهنيين المغاربة الذين يعملون في هذا المجال ويقطعون أدغال إفريقيا في اتجاه الدول البعيدة لتزويد أسواقها بالمنتجات المغربية التي يرتفع عليها الطلب سنويا. هذه الرحلة الطويلة يقطعها السائقون في أقل من شهر، ويعودون إلى نفس الطريق ليجدوا أنفسهم قد قضوا سنوات متواصلة في الذهاب والإياب بين بوابة إفريقيا وتخومها، وهناك منهم من يتوفر على مشاهدات تستحق فعلا أن تُروى.
هؤلاء السائقون لا يدعون البطولة. ويمكن أن تجدهم بسهولة شديدة إذا اتجهت إلى «إنزكان». حيث يركنون شاحناتهم بعد مغادرة سوق الجملة الذي يعتبر الأضخم في المغرب، ويجلسون لشرب الشاي وتناول الطاجين بلحم الماعز، قبل أن يبدأوا رحلة «الألف» كيلومتر، التي تكون كل واحدة منها حياة إضافية إلى أعمار السائقين.
رحم الله السائقين، شهيدي الواجب. ولطف بمن بقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى