شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

العرب يعرفون ماذا يفعلون

تونس.. 7 مارس

أطفال صغار يشاهدون ذلك، يضحكون ويرددون إيماءات الكاراكوز البذيئة، إنها رياضة ذهنية صعبة: أن يمرنوا أنفسهم إلى أن يصبح ذلك أمرا طبيعيا… جمهور من الأطفال، لا أحد غير الأطفال، أغلبهم صغار، في ماذا يفكرون؟

الفرنسيون لا يذهبون إلى هناك. لا يعرفون الذهاب. دكاكين صغيرة لا طابع لها، نتسلل إليها عبر باب واطئ. الفرنسيون يذهبون بانتظام إلى بعض الأمكنة الفاخرة في الجوار، والتي لا تجلب إلا السياح بسبب بذخها، العرب يعرفون ماذا يفعلون، إنها أشياء بسيطة، فهذا حصان من كرتون، يرقص. وهذا جمل من خشب وقماش، يرقص أيضا، وهو أمر مضحك بكل تأكيد، لكن بطريقة سوقية. قريبا من هنا يقع محل اسمه كاراكوز تقليدي، كلاسيكي، بسيط لا وجود لدكان أبسط منه، يخلق تعاقدا مسرحيا رائعا، حيث يختبئ كاراكوز في وسط الخشبة بين دركيين يبحثان عنه، فهو لا يراهما لأنه مطأطأ الرأس، والأطفال يقبلون ذلك، يفهمونه ويضحكون.

كاراكوز، عبارة عن قاعة مستطيلة، حانوت صغير أثناء النهار، وفي الليل ينعم بالنشاط. خشبة صغيرة بستارة من القماش الشفاف تقع في مؤخرة القاعة من أجل الظلال. مقعدان طويلان على طول الجدران، هذه هي مقاعد الامتياز. يمتلئ وسط القاعة بأطفال صغار يقتعدون الأرض ويتدافعون، كنا نأكل كمية من حبوب البطيخ المجففة في الملح، وقطعة حلوى لذيذة إلى درجة أنه في كل ليلة لا شيء يبقى منها في جيبي، وفي الصباح أملأه بفلسين، لقد كنت أيضا أعطي منها للأطفال.

الممتع هنا، هي هذه الأعشاش التي في الحائط، وهي نوع من الأسرة غير المريحة، أعشاش سنونو البحر، لا نستطيع الوصول إليها إلا باستعمال قوة اليدين، ومن حيث لا نستطيع النزول _يمكن أن نسقط منها_ لا تكترى إلا لليلة كاملة لهواة سباق الثيران الشبان.

إلى هنا جئت عدة ليال، الجمهور هو نفسه تقريبا، في نفس الساحة، ينصت للعروض ذاتها، ويضحك في نفس المواضع، مثلي أنا. كاراكوز، دكان آخر، مجموعة من السودانيين، أين هم السودانيون، العرب لا يذهبون بطيب خاطر، إذن، هنا لا نرى إلا السود، لكني في هذه الليلة التقيتُ بصديقي «ر».

لم يبدأ العرض بعد، (فترات الاستراحة دائما أطول بكثير من العرض لأن هذا الأخير لا يستغرق سوى ربع ساعة) أحد الزنوج يهز حيات من نوع ذات الأجراس فيما آخر يضرب على طبل مستطيل، أما الثالث، الضخم، فيهتز ويتململ أمام (( ر )) وهو جالس أمام أقدامنا تقريبا، كان يغني ويرتجل أغنية مأساوية مملة قيل فيها، حسبما فهمت، إنه فقير جدا، فيما (( ر )) غني جدا وأن الزنوج هم دائما في حاجة إلى المال، ولأنه كان عنيفا شيئا ما، ولأن العرب يدعون أنه لا ينبغي الوثوق في الجمل والزنجي والصحراء، فلم نتوان عن أن نصبح متصدقين.

كاراكوز. دكاكين أخرى، هنا يصبح العرض ذريعة لضرب المواعد. دائما نفس الذين يقدمون العروض، من ليلة إلى ليلة، تحت عين رئيسهم العطوف. نتحلق حول طفل له جمال غريب يعزف على مزمار القربة. الآخرون يتغزلون فيه. واحد آخر يضرب على طبل غريب له شكل مزهرية، قاعه مصنوع من جلد الحمار. الذي يعزف على مزمار القربة، يجمع المال من المقهى، يبتسم للجميع دون أن يعطي الامتياز لأي أحد. بعضهم يتلو عليه أبيات شعر ويغنيها، فيجيب عليها، ويقترب لكن كل ذلك ينحصر، كما أعتقد، في بعض الإطراءات أمام الكل، هذا الدكان ليس مكانا قذرا، بل هو ساحة للحب، أحيانا ينهض أحدهم ويرقص، أحيانا اثنان، يصبح الرقص إذن نوعا من الإيماء الحر.

يكاد العرض في الخارج، كما هو الأمر هنا، أن يكون دائما مخلا بالحياء، أريد أن أعرف تاريخ كاراكوز لابد أنه قديم جدا. قيل لي إنه ينحدر من «إسطنبول»، وأنه في كل مكان في القسطنطينية، وتونس تمنع الشرطة الصعود فوق خشبات العرض، إلا في شهر رمضان. يستمر الصيام طيلة أربعين يوما* من طلوع الشمس إلى غروبها. صوم مطلق لا أكل، لا شراب، لا تدخين، لا عطور، لا نساء. بكل دلالات حرمان النفس طوال النهار، فيما يأخذ الليل شكل الانتقام، حيث يتم الترويح عن النفس بأقصى قدر ممكن، وبكل تأكيد هناك أيضا عرب متدينون جدا، يقضون ليل رمضان بعد تناول وجبة زهيدة، في التأمل والصلاة، كما أن هناك أيضا من يستمرون في اللهو طوال النهار، لكن ذلك لا يحدث إلا في المدن الكبيرة التي يعتبرون فيها المسيحيين قليلي الأخلاق، إن العرب في أغلبيتهم يمارسون شعائرهم الدينية بدقة.

أردت أن أرى من جديد في هذه الليلة الأخيرة، قبل مغادرتي كل ما أظهرت لي تونس نادرا وغريبا، أتذكر أني اقتفيت مطولا أثر هذه الموسيقى العسكرية التي عادت إلى ثكنتها مطربة جدا، صحيحة، جميلة وظافرة _ بينما فوق الساحات، وعلى البحر وفي الشوارع الفرنسية، شكلت الشهب النارية من شجرة الفلفل المزيفـة فتائل معدنية وردية.

تعود قلة من العرب إلى هذا الممر، بينما يستمر في مقاهيهم صوت الموسيقى الضعيف.

يتذكر الكثيرون، كما أظن، اليوم الذي دخلت فيه هذه الموسيقى لأول مرة، مبشرة بالنصر، إلى المدينة المهزومة، سأحزن إذا ما عرفت بأن موقفهم من الفرنسيين هو الكراهية دائما.

++++++

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى