شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

يوميات هولندية قضت 12 سنة من الأسر بالمغرب

كُتبت سنة 1748 ونُشرت لأول مرة سنة 1933

«في الترجمة التي أنجزها الباحث المغربي ذ. بوشعيب الساوري لمذكرات الأسيرة الهولندية ماريا تير ميتلن في المغرب، إعادة للحياة لأوراق يوميات هذه الشابة التي اعتقلت واقتيدت إلى سلا على يد «القراصنة» أو بحارة «الجهاد البحري» سنة 1731، لكي تمتد تجربة أسرها إلى سنة 1743. المذكرات تحمل عنوان: «اثنتا عشرة سنة من الاستعباد». ورغم قساوة العنوان، إلا أن ماريا في كثير من الصفحات أبانت عن امتنان لتجربتها المغربية، حيث عاشت في ظل القصر الملكي في مكناس وترددت عليه للمثول يوميا أمام السلطان مولاي محمد، ابن المولى إسماعيل، الذي عينها لكي تكون خادمة لواحدة من زوجاته».

 

 

يونس جنوحي

 

 

الهولندية التي عاشت «محن» مغرب ما بعد المولى إسماعيل

قصة الأسيرة الهولندية «ماريا تير ميتلن»، تحفل بتفاصيل قد لا يصدقها القارئ الأجنبي. لكنها، بحكم التفاصيل الواردة فيها، تبقى شهادة توثيقية لمرحلة مهمة جدا من تاريخ المغرب.

المثير أن هذه الأسيرة التي غادرت المغرب سنة 1743، لم تكتب مذكراتها إلا بعد خمس سنوات على مغادرة قصر مكناس ونيلها حريتها. ورغم انقضاء السنوات الخمس، فإنها بقيت تحفظ كل التفاصيل المتعلقة بإقامتها في المغرب يوما بيوم، لتوثق لتجربة 12 سنة من الأسر والعبودية.

جاء في تقديم ترجمة هذه المذكرات إلى العربية، والتي أنجزها الباحث المغربي بوشعيب الساوري في إطار مجهود فكري وبحثي مهم للغاية، أن مخطوط اليوميات التي كتبتها ماريا يعود إلى سنة 1748 -أي فعلا بعد خمس سنوات على مغادرتها المغرب ونهاية محنتها- لكنها لم تر النور ولم تُنشر إلا في سنة 1933!

الكتاب الذي نُشر في ثلاثينيات القرن الماضي، استنادا إلى المخطوط الأصلي تُرجم لأول مرة من الهولندية إلى الفرنسية سنة 1956، وهي النسخة التي اعتمدها د. بوشعيب الساوري. ويقول في تقديمه لهذا الكتاب، إنه اكتشف وجود ترجمة عربية أخرى لهذه المذكرات أنجزتها الأستاذة نجاة زروقي في جامعة الناظور. الترجمة التي أصدرها ذ. بوشعيب الساوري جاءت بعنوان: «اثنتا عشرة سنة من الاستعباد. رحلة أسيرة هولندية في بلاد المغرب 1731- 1743».

من تكون إذن ماريا، لكي تشغل مذكراتها الباحثين بهذه الطريقة؟

تحدثت ماريا عن نفسها في بداية مذكراتها، قبل الحديث عن تجربة الأسر وكيف قادتها الأقدار إلى أن تصبح «أَمَة» في المغرب، وبالضبط في القصر الملكي بمكناس: «تجولت خارج بلادي منذ سن الثالثة عشرة من عمري، ولما بلغتُ العشرين، قررت رغم ذلك القيام برحلة صغيرة عبر فرنسا، متنكرة في زي رجل. وعلى تلك الهيئة وصلت إلى إسبانيا، حيث اضطررت إلى الالتحاق بفوج من الفرسان بالجيش، في مدينة تسمى «سيكتوريا». لم أمكث هناك مدة طويلة، لأنه بعيد ذلك كشف أمري، وتبين لهم أنني لست أنا هي صاحبة الاسم الذي سُجلت به. فأعدت ارتداء ملابس نسائية وتوجهتُ بمعية زوجة عامل اللواء إلى مدريد. وبعد أن أقمت بها مدة يسيرة من الزمن، تزوجت فيها في آخر الأمر يوم 22 أكتوبر من سنة 1728 بقبطان هولندي، يدعى كلاس فان دير مير..».

زواج ماريا سوف يقودها إلى مغامرات أخرى. وتحكي في بداية المذكرات عن وقوعها في الأسر على يد القراصنة، بعد سنوات قليلة على زواجها، وهي في غمرة خوض رحلة عبر سفينة رفض ربانها في الوهلة الأولى الاستسلام لهم. وتقول أيضا إنها رفضت الهرب في البداية، ولو أنها هربت لما عاشت هذه التجربة التي نتجت عنها هذه المذكرات. تقول مستحضرة تلك اللحظات العصيبة التي سبقت الوقوع في الأسر:

«استولى المغاربة على تلك الأشياء كلها. لذلك صعدتُ إلى الجسر، حيث وجدت زوجي والقبطان وواحدا من الركاب كان يعمل طباخا لملك إسبانيا، وكانت الدموع تنهمر على خدود الثلاثة. ظلوا هناك مثل مجرمين محكومين بالإعدام، بملابسهم التي مزقها المغاربة. بعد ذلك اقترب مني المغاربة، كي يلقوا نظرة. كنت أشاهد تلك الكتلة كلها من الرجال بنظرة خاطفة، ثم تراجعتُ إلى الوراء قرب سائق الدفة.

كان يوجد هناك كيس كبير يحتوي على الخزف الصيني، أتى به القبطان من إسبانيا، كما وضعت به ملابسي الشتوية وألبسة داخلية وسكريات، لم أستطع وضعها بصناديق الأمتعة. كان واحدا من المغاربة قد اتخذه – أي الكيس- مقعدا، بعدما استولى عليه. أوقفته وأخرجتُ منه ما كنت في حاجة إليه، ثم تركته يجلس عليه مجددا، وكلفته بحراسته ووعدته حينها بأن أعطيه شيئا هاما. أخرجت حلوى معدة بالفواكه المسكرة، وقدمت إليه قطعة منها، وعدت حينها نحو رفاقي محاولة التخفيف عنهم ما استطعت».

هذا المشهد الذي حاولت ماريا أن تُبين فيه عن رباطة جأش في موقف مماثل، لم يشفع لها لكي لا تقع في الأسر، حيث اقتيدت رفقة من كانوا معها من الأجانب – معظمهم هولنديون- ووضعوا جميعا في زورق صغير رحل بهم من سفينتهم صوب سفينة البحارة المغاربة.

 

من سلا إلى مكناس.. رحلة 12 سنة من العبودية بالمغرب 

أول ما رأته ماريا عند وصولها إلى المغرب، مشهد مرفأ سلا التاريخي الذي كانت أعلامه وسفنه الخشبية المحلية ترعب الأجانب. فقد كان الجهاد البحري، أو القراصنة كما يُسميهم الأوروبيون، يقضون فعلا مضجع حكومات أوروبا.

سنة1731 التي وصلت فيها ماريا وزوجها إلى المغرب، كانت من السنوات التي تضمنت أحداث سوداء في خريطة الأحداث التي عرفتها البلاد.

أول ما سُئلت عنه ماريا، ما يتعلق بديانتها، حيث أوضحت لحاكم سلا الذي اقتيدوا جميعا إلى بيته بمجرد وصولهم إلى الشاطئ، أنها بروتستانتية.

تقول ماريا إنها ومن معها من التجار والمسافرين الأجانب، كانوا بخير نسبيا طيلة مدة إقامتهم في سلا، بل وأضافت قائلة: «كنا بخير نسبيا، ولم نكن محرومين من أي شيء تقريبا. وظللنا هناك إلى غاية 10 غشت1731، حين ذهبتُ في صباحه إلى القبطان الذي أعطاني كيسا ضخما من الملابس وفراشا صوفيا وغطاء قطنيا وحاضن ربع من النبيذ الأحمر، وزوجا من الأقراط، وصليبا من حجر مزيف وحليا أخرى رخيصة».

بعد ذلك مباشرة اقتيدوا جميعا إلى مكناس، بعد أن مُنحوا فترة لحزم أمتعتهم، حيث وصلوا إليها يوم 12 غشت، بعد يومين من المسير إليها من سلا.

عندما وصلت ماريا إلى مكناس، وضعت في منزل سيدة إسبانية، في انتظار أن يحظى الأسرى باستقبال لكي يراهم السلطان ويقرر في شأنهم، وهو ما تم فعلا يوم 17 غشت.

  • تقول ماريا إن الهولنديين أنفسهم كانوا يستغربون من منظرها، لأنها كانت – حسب ما قالته في مذكراتها- صغيرة السن، واستغربوا أن تكون متزوجة. تقول: «كنتُ في ريعان شبابي، ولم أكن قبيحة، وكنتُ أبدو أصغر من سني، وهو ما دفع رئيس معشر الأسرى الهولنديين إلى الاعتقاد بأنني فتاة تبلغ من العمر 14 سنة، بينما كان عمري حينها 27 سنة. لأنه قال لزوجي: من هذه الفتاة الصغيرة؟

وحين أجابه زوجي بأنني زوجته، وجد الأمر باعثا على الاستغراب».

تقول ماريا إن السلطان عندما رآها هي وزوجها، وأمعن النظر فيهما، أمر بأن يعادا إلى منزل المرأة الإسبانية وأوصى بأن يتم الاعتناء بهما. وكلفت بمهمة جرد ما ضُبط مع الأسرى في السفينة.

بينما تقرر الاحتفاظ بالأسرى الآخرين، ومعهم ربان السفينة أيضا، ووُجهوا فورا إلى العمل.

إلا أن التعليمات الملكية التي أعطاها السلطان لم تُطبق. تقول ماريا: «إلا أنه سيق بي إلى الباشا وكان ينبغي أن أحصي كل ما كانت تحويه السفينة، وحتى أطمن القبطان تماما أغفلت الحديث عن بعض الأمور. وبعد أن قدمت تقريري، توسلت إلى الباشا لكي يدع القبطان حرا طليقا، وهو ما حصلت عليه. لكن ذلك لم يدم سوى فترة قصيرة لم تتجاوز 14 يوما، إذ إن الباشا لم ينفذ ما وعد به».

وهكذا بدأت يوميات الأسر لدى ماريا، والتي امتدت 12 سنة كاملة عاشت خلالها تفاصيل كثيرة تجمع بين الألم و«الغرائبيات».

لقاء مع إحدى زوجات مولاي إسماعيل في السجن

تجربة هذه الأسيرة الهولندية تبقى عجيبة بكل المقاييس. إذ إن الفترة التي حلت فيها بالمغرب، كانت فترة انفلات سياسي وأمني بكل المقاييس، بسبب الصراع حول السلطة بعد وفاة المولى إسماعيل، أحد أقوى من حكموا المغرب عبر التاريخ.

لم يتسن لهذه الأسيرة أن توضح أكثر، ما إن كان اللقاء مع والدة المولى عبد الله، أم مع زوجة أخرى من زوجات المولى إسماعيل، اللواتي أنجبن ذكورا تنافسوا في ما بينهم على خلافة والدهم.

قبل أن يصل المولى عبد الله إلى الحكم، وهو الذي حكم مرتين في فترة قصيرة جدا، بادرت هذه الأسيرة الهولندية إلى تهنئة والدة أخيه الذي كان سلطانا قبله، ثم جاء من بعده أربعة من إخوته في فترة قصيرة جدا، تلتها عودة المولى عبد الله إلى الحكم. لكن كيف تسنى لأسيرة قضت فترة في سجن مظلم، أن تتعرف على والدة السلطان؟

الجواب يأتي في صفحات المذكرات، إذ إن هذه الأسيرة تعرفت على «الملكة الأم» في السجن، بعد أن قضت معها فترة داخله، عندما كان المولى عبد الله يُحارب حتى لا يصل إلى الحكم. وبما أن والدته كان أول داعميه لكي يخلف والده المولى إسماعيل، فقد كان مصيرها السجن في فترة من الفترات. شأنها شأن زوجات أخريات من زوجات المولى إسماعيل.

وما يزكي هذا الطرح الذي تقدمه هذه الأسيرة الهولندية، أن المولى إسماعيل عرف عبر التاريخ بزيجاته الكثيرة، حتى أن عددا من المؤرخين، مغاربة وأجانب، أكدوا أنه لا يمكن أبدا إحصاء عدد خادمات المولى إسماعيل وزوجاته اللواتي رزق منهن بأبناء ذكور. وهو ما أجج الحرب بين أبنائه بعد وفاته.

جاء في مذكرات هذه الأسيرة الهولندية، ما يلي: «ذهبت على الفور إلى والدة الملك التي كانت مسجونة طوال تلك الفترة، وكُنتُ قد زرتها بضع مرات في السجن، وهو ما كان يسرها كثيرا. هنأتها، وعدت بعد ذلك إلى بيتي بالمدينة، معتقدة أن السلم قد عاد إلى حياتنا. لكن ذلك لم يتحقق تماما، لأنه قبل حلول منتصف النهار، تم تنصيب أربعة ملوك. كانوا يُنصبون الواحد تلو الآخر على العرش، ويُخلعون، وهو ما سبّب في مناوشات، لا يستهان بها. وظللنا بضعة أيام بلا ملك إلى غاية يوم 8 ماي من سنة 1736م، حين أعلن عن مولاي عبد الله ملكا من جديد، إذ تم الإتيان به من تطوان، حيث كان يوجد رفقة جيش كبير، على بعد ستة أيام من السفر من المدينة. ففي منتصف يونيو، اقترب من المدينة مكناس، وجاء إلى قصره، لكنه لم يمكث به مدة طويلة، إذ غادره بعد ذلك، وذهب إلى خارج المدينة، حيث كان له قصر صغير، أو إقامة صيفية، تفصله عن المدينة ثلاث ساعات من السير، حيث استدعى الأسرى النصارى كلهم، وأمرهم بحفر منجم (كذا) حول القصر. فذهب النصارى كلهم إلى هناك، ولم تتبق سوى تلك المرأة الإسبانية وأمها وأنا وطفلي والكهنة بديرهم».

تواصل ماريا روايتها حول ما حل بها خلال أزمة الحُكم، قائلة: «بقيت هناك رفقة ابني، بينما لم نكن نتوفر ولو على سنت واحد يمكنني من توفير قوتنا اليومي. كما أخافني بقائي وحيدة بالمنزل رفقة المغاربة. وحتى ذلك النصراني الذي كان يقرضنا بعض الدوكات، كان بدوره قد ذهب مسرعا، ولم يكن هناك متسع من الوقت لإخراج بعض المال من المطامير. وهي حفر تحت الأرض خبأنا فيها العديد من الأشياء الثمينة، خوفا من المسلمين جريا على عادة أهل البلد، حيث يُخبئ السكان كل شيء تحت الأرض خوفا من العدو».

 

 

أيام سوداء لواحدة من أشد وأطول المجاعات بالمغرب

يتعلق الأمر بمجاعة 1737، التي تناولها المؤرخون المغاربة. لكن المميز هنا، أن الأسيرة ماريا تير ميتلن، تحكي عنها كما عاشت أيامها بنفسها. وذكرتها في سياق الحديث عن فترة حكم مولاي محمد بن المولى اسماعيل تقول: «خلال حكم هذا الملك اجتزنا فترة غلاء يرثى لها، امتدت من سنة 1737 إلى يونيو 1738. قضى خلالها 48 ألف نفر، بسبب اشتداد الجوع. وكان الأحياء يفترسون الأموات، بل أكلت الأمهات أبناءهن. ولم يتبق لا كلب ولا قط، الكل تم أكله. كما أن الناس يُخرجون عظام الحيوانات من الأرض ويسحقونها بين قطعتي حجر، ويبتلعون دقيقها مع جرع من الماء. كما أكل الناس إسمنت الحيطان والتبن، كما البهائم، بسبب انعدام العشب.

كان يتلقى أسرى الملك كل يوم عوض الخبز، بعض الحفنات من الزيتون مكسوة بقشورها المنكمشة بعد أن استخلص منها الزيت. البيت الملكي وحده لم يكن به خصاص في الطعام، فلم يمت الناس فيه جوعا. وعلى الرغم من أنه كانت تصل من بلدان النصارى سفن بالمئات محملة بالقمح، لكن ذلك لم يقدم شيئا كثيرا بالنسبة إلى المدينة الملكية، لأن قوافل الملك وقوافل سكان المدينة كانت تتعرض للنهب من قبل البدو المتمردين على الملك. بحيث عظم الغلاء في مدينة مكناس أكثر من أي مكان آخر. وكنا مجبرين في تلك الأثناء على دفع دكوتين لعشرة لشراء أرطال من حبوب القمح، وكنا لا نحصل عليها دائما، والمواد الأخرى كانت على غرار ذلك. كما أن الناس لم يكونوا يتوفرون على المال».

هكذا إذن عاش أسرى قصر مكناس تلك الأيام السوداء. أشارت هذه الأسيرة إلى مسألة غاية في الأهمية، وتتعلق بمساع هؤلاء الأسرى للقاء السلطان، بحثا عن حل لمشكلتهم. فقد كان الحل الوحيد للخروج من أجواء المجاعة، هو إبرام صفقة بين المغرب وهولندا وبقية دول أوروبا التي لديها أسرى في المغرب، لترحيلهم.

خصوصا وأن مئات الأسرى الأجانب، كانوا محتجزين في المغرب منذ أيام المولى إسماعيل – رغم أن أغلبهم أطلق سراحهم، عندما أبرم المغرب في عهده اتفاقيات مع الدول الأوروبية الكبرى، وأطلق سراح الأسرى عربونا على الصداقة والصلح- ولم يُطلق سراحهم، وزاد تردي الأوضاع السياسية والصراع حول السلطة بين أبناء المولى إسماعيل بعد وفاته سنة 1727، من تعميق معاناتهم.

وفي إطار هذه المساعي، تقول الأسيرة ماريا: «أجبر زوجي الذي كان دائما مسرّحا لدى الملك، على العمل المصحوب بالضرب والتعنيف، وهو ما لم أكن قادرة على تحمله. وكنتُ أود اغتنام فرصة وجود الملك خارج قصره لأتقدم إليه رفقة زوجي وابني، لكننا لم نستطع الوصول إليه. كان الملك قد عاد إلى قصره وكانت الأبواب مقفلة. وكنت قد قطعت وعدا على نفسي ألا أعود إلى بيتي قبل الوقوف بين يدي الملك، وهو ما لم يتأت لي، ومع ذلك، اتخذتُ التدابير كلها، وسلكت السبل كلها حتى يستدعيني رفقة زوجي وابني».

 

لقاء ملكي فتح لـ«ماريا» أبواب القصر لتصبح «خادمة» لزوجة السلطان

إذا كان من الضروري تحديد أقوى لحظات هذه المذكرات، خصوصا ما يتقاطع منها مع التوثيق لتاريخ المغرب، فهو ما كتبته ماريا بخصوص لقائها مع السلطان.

صحيح أن بعض تفاصيل مذكراتها تبقى غاية في الأهمية، سيما ما يتعلق بيومياتها ومغامراتها وما عاشته من محطات منذ وقوعها في الأسر إلى أن أطلق سراحها لترحل إلى هولندا، لكن ما يتعلق بالتوثيق لبعض الحقائق عن تاريخ المغرب، والتي لم يصل إليها المؤرخون، يبقى أهم ما جاء في هذه المذكرات، خصوصا وأن صاحبتها عاشت في ظل القصر الملكي قبل قرون خلت.

أما في ما يخص لقاءها بالسلطان مولاي محمد، فقد كتبت تقول: «وصلنا، إذن، إلى القصر، حيث اقتادني واحد من مندوبيه إلى الداخل، رفقة ابني أمام الملك ونسائه، حيث حظيت باستقبال غاية في اللطف، وسألني عن مبتغاي. فأجبته متوسلة أن يعفي زوجي من القيام بأي عمل، وأن يتمكن من كسب قُوتِنا أنا وابني، كما كانت عليه الحال أيام حكم والده وإخوته الذين كانوا ملوكا. فهم الملك أن زوجي كان قد أجبر على العمل دون أمر منه، وكان غاضبا، وسألني لماذا لم أخبره بالأمر بشكل مستعجل؟ قلت له بعد رحيل الإسبان، على إثر تحررهم، كُنتُ سأذهب إليه، إن لم يمنعوني، لأني كُنتُ سأتوسل إلى الملك كي يهبني بيت تلك المرأة الإسبانية، والذي كان قد اشتراه والده الملك من أجل النصارى وأعطاه إليهم، كي يقيموا فيه تجارة، لأنه لم يكن من اللائق أن يقيم النصارى المتزوجون في القنوط، بجانب باقي النصارى غير المتزوجين، وأن البيت الذي كانت قد وهبته لي الملكة (تقصد أم الملك) قد هُدّم، وإنني الآن مضطرة إلى السكن مع باقي النصارى. استحسن الملك استعطافي كثيرا، وأجابني بأنه سيهبني بيتا في المدينة، سيلائمني كثيرا. وطمأنني أن زوجي لن يُعنف بعد الآن، وأكد لي أن كل من سيكلمني بسوء أنا وزوجي وابني يمكن أن يفقد حظوته لدى الملك. لم أكن قليلة الدهشة من ذلك الاستقبال الودود والمناسب، فسلمني الملك كَأمة لواحدة من زوجاته الشرعيات وأمرني بالمجيء إلى القصر كل يوم، وهو ما التزمتُ به».

هذا اللقاء الذي غير حياة ماريا وجعل تجربتها المغربية غنية وتستحق فعلا أن تُروى، نتج عنه ترددها على القصر يوميا، وهو ما جعلها لا تفوت الثناء على كرم الملك، حتى أنها خصصت له حيزا في المذكرات، وعنونته بـ«كرم الملك». تقول: «أرسلني الملك حينها مع امرأتين ومندوبيه في المدينة، بعد أن أكرمني أنا وابني، وكلفهم بمراقبة من يعنف زوجي وابني. وهبني حاكم المدينة منزلا، وما أعجبني كثيرا هو أنه منحني ترجمانة، يعني معلمة للغة، لأنني لم أكن أعرف اللغة جيدا، لكي ترافقني كل يوم إلى الملك كمترجمة. اعطوني حينها لهذه المدة مرتدة إيرلندية، أسلمت بعد تعرضها لكثير من التعذيب، واخترتُ بيتا لباشا، حيث سأسكن. كانت أوامر الملك صارمة، ولم يكن بمستطاع أي أحد أن يوجه لنا كلمة سوء».

تحكي ماريا أيضا أنها كانت تقضي ساعتين، كمعدل يومي، في القصر الملكي، وتحدث الملك عن ثقافة بلادها وما تعرفه عن النباتات النادرة وما يأتي من البلدان الأوروبية من منتوجات، كما أنها كانت تحكي له عن المدن التي زارتها. ولكي تضفي هالة من الهيبة على مهمتها الجديدة في القصر الملكي، فقد كتبت تقول إنها كانت تعمل على تكوين الملك تكوينا جيدا.

 

صفقة شراء الأسرى الهولنديين في المغرب لتحريرهم

تقول ماريا، في حديثها عن الطريقة التي نالت بها حريتها بعد سنوات من الأسر في المغرب، إنها كانت تصيح «حرية، حرية»، وهي تحمل الرسالة التي جاءت من وراء البحر لتنقل خبر تحريرهم. وقبل حتى أن تفتح الرسالة، فقد كانت تصرخ مرددة كلمة «حرية» وهي تتجه صوب مجموعة من الأسرى الهولنديين.

بدأ كل شيء عندما لاحت لـ«ماريا» علامات الانفراج، بعد تطورات سياسية بسبب المواجهات مع القوى الأجنبية، لحل ملف الأسرى. ورغم استخفاف بعض الأجانب الذين قالت إنهم بقوا في الأسر، لأنهم لم يؤمنوا بما كانت تتفاءل به، إلا أن اليوم المنتظر قد حل أخيرا. تقول ماريا إن ساعيا قد وصل من طنجة حاملا رسالة من التاجر «دون لويس باتلر»، تحمل في طياتها «أسعد خبر». فحوى الرسالة أن القبطان لومبري قد اشترى من الباشا الأسرى الهولنديين الذين كانوا في مدينة طنجة، واتفق معه على أن يرسل إليه في غضون ستة أسابيع الأسرى الموجودين لدى الملك في مكناس.

تقول: «اجتمع حولي الكثير من أبناء وطني. واعتقدوا أنني صرتُ مجنونة وغريبة الأطوار، قبل أن أفتح الرسالة. لا أحد غيري كان بمستطاعه قراءتها، لأنها كانت مكتوبة باللغة الإسبانية. قرأتها عليهم، لكنهم لم يصدقوا ما جاء فيها، ولم أستطع إقناعهم، على الرغم من أن الرقاص حمل إلينا الخبر.

بعد انصرام حوالي خمسة أسابيع، وتحديدا في يوم 9 نونبر سنة 1742، تم استدعائي أنا وزوجي وطفليّ الاثنين للمثول بين يدي الملك، الذي وافق على تحريرنا نحن الأربعة وسلمنا إلى مبعوث باشا طنجة. منحنا الملك حريتنا عن طواعية، لكنه كان يريد الاحتفاظ بالآخرين، إذ إن المبعوث لم يُلح كما يجب في الحصول على الآخرين أيضا.

في اليوم الموالي أصدر الملك أوامره القاضية بحضور الأسرى النصارى كلهم، وتم اختيار تسعة آخرين أيضا سيحررهم الملك تحت إلحاح مبعوث الباشا. وفي اليوم الثالث طلب الآخرين، بحيث أصبحنا 13 ممن وقع عليهم الاختيار الملكي».

تقول ماريا إن آخر جملة ودعها بها المولى محمد بن المولى إسماعيل، كانت كالآتي: «صحيح ما رأيتُ، هذه النصرانية جديرة بأن تكون أميرة».

ولا بد أن ماريا عندما كتبت مذكراتها خمس سنوات بعد هذه الجملة، وهي تنعم بحياتها الجديدة في هولندا، لم تنس ما عاشته في المغرب من تجارب جعلت من هذه المذكرات، واحدة من أقوى وأندر الكتابات الأجنبية عن المغرب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى