القصة المثيرة لميلاد علامة Made In Morocco مدونة في أرشيف موانئ البلاد وأصحابها منسيون

نبدأ مثلا بعائلة مسجلة باسم آل التركي، حيث اشتغل جيلان من العائلة في قطاع تصدير الزليج المغربي. وكانوا يستقرون في الرباط قادمين إليها من فاس، حيث انتقلوا إلى الاستقرار بها مع انتقال السلطة من فاس إلى الرباط في عهد المولى يوسف ابتداء من سنة 1912، وربطوا علاقة وطيدة مع القصر الملكي. هذه العائلة حققت أرباحا بمئات آلاف الفرنكات من خلال تصدير الزليج المغربي من مدينة فاس، واقتنت أسطولا كاملا من الشاحنات، واضطرت إلى انتظار موافقة الإقامة العامة الفرنسية وتدخل السلطان مولاي يوسف من أجلها سنة 1915، لكي يقنع الإقامة العامة الفرنسية بالترخيص لها لاستيراد الشاحنات لنقل الزليج «الحر» بكميات كبيرة إلى ميناء الدار البيضاء، ومن ثمة بيعه في كل من إيطاليا وإيرلندا. أما في فرنسا فقد صادفتها صعوبات كثيرة في السنوات الخمس الأولى، ثم استطاعت اقتحام السوق الفرنسي متأخرة، لكن لم تكن حجم معاملاتها بالقوة نفسها التي وصلت إليها في بريطانيا وإيرلندا. وكان عمال الشركة البريطانية يقومون بطبع شعار «Made in Morocco» على صناديق شحنات الزليج المغربي لآل التركي.
الحرب العالمية الثانية كانت وراء ازدهار «الماركة» المغربية
عند الإنزال الأمريكي في الشواطئ المغربية للمشاركة في الحرب العالمية الثانية سنة 1943، كان المغرب على موعد مع التاريخ. سوف يصبح السوق المغربي مطلوبا بقوة لدى المستثمرين، الذين تضررت أعمالهم في أوربا بسبب الحرب العالمية الثانية.
وقبل الحرب بسنوات طويلة، ومنذ القرن 19 كان المغاربة قد وصلوا فعلا إلى السوق العالمية، وكانت «صنع في المغرب» تطبع باللغة الإنجليزية، ثم الفرنسية لاحقا، على السلع المغربية الموجهة إلى التصدير نحو أوربا والعالم.
الكلاوي، باشا مراكش الشهير، كان بدوره سفيرا للماركة المغربية في الخارج. ليس فقط لأنه أسس شركات ومارس التجارة بعيدا عن الصورة القديمة التي عرفها بها المغاربة كحليف لفرنسا ومحارب في تخوم جبال الأطلس، ولكن لأنه كان موضوع الصحافة العالمية لأنه صادق المشاهير واستضافهم ولبى دعواتهم إلى زيارة فرنسا وبريطانيا، وحضر الأوبرا والمسارح ودور السينما. وبالتالي كان وجهه «ماركة» مغربية روجت للمغرب في أوربا، خلال ثلاثينيات القرن الماضي تحديدا.
سبق للباشا الكلاوي أن أسس شركة مع مساهمين فرنسيين، لكن كان جل رأسمالها مغربيا. أطلق عليها اسم «زليجة» وقد كان من بين أنشطتها تصدير منتجات مغربية صنعت في المغرب نحو أوربا. قصة الشركة «زليجة» التي توجد إشارات إليها في سجلات المعاملات التجارية لنهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تؤكد أن الباشا الكلاوي كان يبحث عن السيطرة على السوق المغربي، حيث أسس الشركة التي فازت بشراكات مع شركات فرنسية أخرى تعمل أساسا في مجال البناء وترميم القصور وتشييد بنايات على الطراز الفرنسي والمغربي أيضا.
هذه الشركة كان الباشا يهم ببيعها إلى وزراء فرنسيين من الحكومة الفرنسية. وهؤلاء الوزراء كانوا يخططون ربما للتقاعد في المغرب والاستثمار فيه، خصوصا وأنهم لم يفاتحوا الباشا في موضوع الاستثمار، إلا بعد نهاية ولاياتهم الوزارية. وهناك اليوم مراسلات تتحدث عن اسم شركة «زليجة» دون الخوض في تفاصيل عن مجمل أنشطتها المالية أو التجارية، لكن تم ربطها بالباشا الكلاوي باعتباره المساهم الأكبر في رأسمالها الضخم في ذلك الوقت، ولعلها اليوم تستحق عن جدارة لقب «الشركة المنقرضة». لأن عددا من شركات الكلاوي قد انقرضت بالفعل، أو بيعت وتغيرت أسماؤها حتى لا تتعرض للتخريب على يد الوطنيين الذين كانوا ينقبون في تلك الإشاعات ويبحثون عن أي شركة يمكن أن تكون على علاقة بثروة الكلاوي، الذي ناصبهم العداء بدوره خلال بداية الخمسينيات.
كان نشاط هذه الشركة مسجلا بين سنوات الأربعينيات وبداية الخمسينيات. حتى أن عبد الصادق الكلاوي في مذكراته عن والده الباشا، نشر أرشيف والده وتوجد به إشارة إلى «شركة زليجة»، دون الحديث عن الطريقة التي انتهت بها تلك الشركة. والتي قد تكون مرتبطة بمصير الباشا نفسه، بعد أزمة العرش منتصف الخمسينيات ونهايتها، بانهزام تيار الباشا الكلاوي وانسحابه من الحياة السياسية نهائيا سنة 1956، وتقاعده بمنزله ليتوفى في الفترة ذاتها. لقد كانت تجربته التجارية أكبر دليل على ازدهار التجارة المغربية، بعد الحرب العالمية الثانية. فأرباح الباشا وبعض المحسوبين عليه ازدهرت بعد سنة 1944، مباشرة بعد انتهاء أزمة عام البون ليصبح السوق المغربي واعدا وبقوة.
من بين الذين ازدهرت تجارتهم في تلك الفترة نجد أحد قادة حزب الاستقلال وأعيان فاس الكبار، محمد الغزاوي، الذي عينه الملك الراحل محمد الخامس مديرا عاما للأمن الوطني بعد الاستقلال. هذا الرجل كان أحد أوائل المغاربة الذين اشتغلوا في التصدير، حيث كانت فروع شركته المغربية تجد لها مكاتب في نيويورك وإيطاليا وفرنسا لتصدير عدد من المنتوجات المغربية صوب أوربا وأمريكا في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما جعله يصبح فاعلا سياسيا كبيرا في المغرب، خصوصا وأنه كان صديقا لكبار أثرياء العالم، سيما في نيويورك وباريس. وبعد الحرب العالمية الثانية، تعززت تجارته بعدد من الصفقات في أوربا وأمريكا، حيث كان شخصيا وراء وصول السلع المغربية من ميناء الدار البيضاء إلى الولايات المتحدة وإيطاليا.
الموانئ المغربية.. ملامح منقرضة لبداية تصدير السلع نحو العالم
رغم أن المغرب وصل إلى موانئ عالمية معروفة في أوربا وأمريكا خلال القرن 19 وبداية القرن العشرين، إلا أن الموانئ المغربية لم يكتب لها أن تتطور إلا عندما أسس الفرنسيون ميناء الدار البيضاء الحديث عند أشغال إعادة بناء الدار البيضاء، بعد القصف الذي «محا» المدينة تقريبا ليعاد تشييدها من جديد، وتتفوق على نفسها لكي تصبح «كازا» أخرى، بناها الفرنسيون وخططوا لها لكي تصبح الركيزة الاقتصادية في شمال إفريقيا وليس في المغرب فقط.
الموانئ المغربية، قبل ذلك التاريخ كانت بدائية جدا. وقد سجلت شركات أجنبية مشاكل كثيرة، خصوصا في موانئ طنجة، الجديدة والصويرة. بينما الإسبان كانت لهم تجاربهم مع ميناء الناظور، الذي تعرض لحريق مهول خلال القرن 18.
في واحدة من الكتابات التي حققت مبيعات كبرى في بريطانيا خلال القرن الماضي، كتبت المغامرة البريطانية الشهيرة آميليا عن الموانئ المغربية، بالصورة التي وجدت عليها ميناء مدينة طنجة سنة 1873. وقد سبق في «الأخبار» أن عرضنا ترجمة في حلقات سنة 2017 لأقوى مضامين يوميات المغامرة البريطانية، والتي عنونتها بـ«شتاء في المغرب».
«الساحل الطنجي كان ساحرا، أطلق عليه الإنجليز منذ القرن 19 اسم مارينا». تقول آميليا إن مارينا طنجة كانت جميلة، عبارة عن مساحة بحرية محاطة بجدران سور المدينة. وكانت
تبدو منها بعض المنازل المترامية على الأطراف، بينما كانت الطريق المؤدية إلى الميناء مغطاة بالحمالين، الذين كانوا منهمكين في نقل السلع والبضائع المتوافدة على ميناء طنجة.
تقول آميليا: «لا يسمح لأي مركب بالاقتراب من الميناء، إلا عندما يتسلم الكابتن ترخيص الصحة من المركب الذي يسبقه. تحمل الباخرة بالإضافة إلى المسافرين والسلع، بريد الرسائل الذي يتكلف مغربي يهودي شاب بحمله كساع بريد إلى المفوضية البريطانية التي تتكلف رسميا به.
كان مستحيلا أن يتم اختطاف اليهودي الشاب للوصول إلى بريد المفوضية البريطانية، للحصول على الرسائل والجرائد.
في أيام الشتاء يكون البريد متأخرا وغير منتظم. وكان عاديا أن تمر خمسة أيام دون وصول أي خبر من بريطانيا.
عندما تصل سفينة أو مركب جديد، يعلو الصياح في الميناء، ويقفز الحمالون إلى الموج ممسكين بأطراف ثيابهم، ملوحين للمركب والمسافرين على متنه مترنحين مع حركة الموج.
المسافرون المعذبون يحملون إلى الأرض إما فوق الكراسي الخشبية أو على أكتاف الحمالين الأقوياء، وأغلبهم يهود. كانوا ينظرون إلى حقائبهم المحجوزة عند الحمالين الذين كانوا نصف عراة».
هذه الصورة البليغة لكيفية عمل الميناء في طنجة، كافية لجعل الأجانب يعرفون أنهم باختيارهم التوجه إلى المغرب، فإنهم يكونون مقبلين على عالم آخر لم يكونوا في الحقيقة يعرفون عنه أي شيء.
حسب آميليا دائما، فإن حوادث كثيرة لانعدام الأمن وقعت في ميناء طنجة خلال القرن 19. وسجلت حالات اختطاف لبنات على مرأى من آبائهن، بالإضافة إلى ضياع حقائب عدد من المسافرين. لكن هذا الأمر كان في حالات نادرة من الفوضى واقتحام دخلاء للحياة داخل الميناء.




