شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

القصة المنسية لبرلمان محمد الخامس ترأسه بن بركة وأعضاؤه لم يكونوا مُنتخبين

في يوم 12 نونبر 1956 افتتح المجلس الوطني الاستشاري، بعد أسابيع من الكواليس واللقاءات الماراثونية ورفع الترشيحات إلى الملك الراحل محمد الخامس، للحسم في أعضائه.

مقالات ذات صلة

اختار الملك الراحل أن يكون المهدي بن بركة رئيسا لهذا المجلس، بينما اختير الأعضاء من الحزبين السياسيين اللذين تقاسما وقتها الساحة، وهما الاستقلال والشورى.

لم يكن هناك دستور للمملكة، وهكذا فإن المجلس جاء ليسد هذا الخصاص.

استمرت التجربة إلى حدود نهاية الخمسينيات، وكانت قصيرة مقارنة مع الآمال التي عُقدت على المجلس، خصوصا في ظل فشل تجارب حكومية متتالية في تحقيق الإجماع الحزبي.

هناك من يرى أن تجربة مجلس المهدي بن بركة كانت محاولة أولى منه لسحب البساط من تحت أقدام الجميع، والتحكم في الساحة السياسية. بينما آخرون رأوا في التجربة استئناسا بالحياة النيابية، التي لم تبدأ إلا بعد الإعلان عن دستور 1962 وتنظيم أولى الانتخابات في البلاد، والتي تلاها الافتتاح الفعلي لأول برلمان مغربي سنة 1963. لماذا إذن نُسيت تجربة هذا المجلس، رغم أنه كان أول تجربة لمناقشة سياسات الدولة؟

 

يونس جنوحي:

 

عندما ترأس بن بركة أول تجربة تمثيلية وطنية سنة بعد الاستقلال

«إننا نحن الذين تشرفنا بثقة جلالتكم فاخترتمونا لنكون الناطقين الأمناء باسم شعبكم المجيد، لنشعر بعظمة الفخر وكبير الغبطة بحلول هذه الذكريات التي علمت بداية نهضة الوطن واستقلاله وانطلاقه في سبيل البناء والعمل، لربط ماضيه النبيل بمستقبله الذي سيكون بإذن الله كذلك عظيما. ولقد رأينا في هذه السنة من آثار النصر والتحرر ما قرت به أعيننا، حيث إن بلادنا حصلت على استقلالها ووحدة أراضيها، وأصبح لديها بفضل جلالتكم حكومة عصرية وجيش منظم وأمن وطني وتمثيل خارجي وغير ذلك من المنشئات العظيمة التي تحققت في مدة قصيرة والتي تستحق أن ينظر إليها بعين التقدير والإعجاب، وقد توجتم ذلك كله بإنشائكم لهذا المجلس، الذي قصدتم به توجيه شعبكم إلى المشاركة في الحكم، تدرجا إلى ما تريدون تحقيقه من ديمقراطية قائمة على أسس النضج السياسي والتهذيب الوطني والوعي الاجتماعي». الكلام هنا للمهدي بن بركة وهو يعلن افتتاح أولى جلسات المجلس الوطني الاستشاري، في 12 نونبر 1956، أي بعد سنة بالضبط على عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.

كان المهدي بن بركة مُنتشيا، بعد أن دخل التاريخ باعتباره أول مسؤول معين لتسيير أول مجلس في تاريخ البلاد، لكي يجمع كلمة مختلف ممثلي الأمة، سواء السياسيين أو النقابيين أو التجار والحرفيين. المنصب كان ترجمة للمكانة التي يحتلها بن بركة لدى الملك الراحل محمد الخامس.

لكن مشاكل كثيرة سوف تجري تحت الجسر، وأخرى كانت مُعلنة، وتجعل علاقة المهدي بن بركة بالحكومة والقصر تعرف الكثير من التحولات.

إذ إن احتجاج حزب الاستقلال على حكومة بلافريج الأولى والثانية، بعد إسقاط حكومتي البكاي الأولى والثانية أيضا، كلها لم تكن إلا ترجمة للتشنج السياسي الكبير الذي كانت تمر به البلاد.

وهكذا فإن مهمة المهدي بن بركة لم تكن سهلة أبدا، بل كانت مفخخة، وكثيرا ما انتقلت الخلافات السياسية إلى المجلس، خصوصا أثناء تدبير مشاكل الحياة النقابية التي كان يمثلها المحجوب بن الصديق، والتجاذبات بين تيار المهدي بن بركة والتيار المحافظ للحزب للسيطرة على النقابة. بالإضافة إلى أزمة أخرى تتعلق بأحداث الاختطاف والاغتيالات التي راح ضحيتها عشرات أعضاء حزب الشورى والاستقلال، بسبب خلافات سياسية مع أعضاء من حزب الاستقلال.

كل هذه المشاكل، بالإضافة إلى مشاكل الإجماع حول الحكومة المغربية التي كان يترأسها أحمد بلافريج في نسختين، جعلت مهمة المجلس عصيبة للغاية. حتى أن المهدي بن بركة تحدث سنة 1958، في تسجيل موثق اليوم بالصوت والصورة، في أرشيف وكالتي الأنباء الإسبانية والفرنسية أيضا، عن أوضاع المغرب سنة 1958 ومدى تأثر المجلس الوطني الاستشاري بها. ومما جاء في كلمته أمام الأعضاء، ما يلي: «سألني صاحب الجلالة حول رأيي بصفتي رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري في الأزمة الحاضرة، وفي كيفية حلها. وقبل التوجه إلى القصر الملكي العامر، كان المجلس قد عقد اجتماعا عاما من أجل مناقشة الميزانية واقترح عليّ أحد أعضاء المجلس أن يتصل بي رؤساء الهيئات الممثلة في المجلس قبل أن أتوجه إلى القصر، حتى يمكنني أن أحمل معي صورة كاملة عن التيارات الفكرية الموجودة في المجلس. وفعلا عندما حظيت بالمثول بين يدي الملك، أمكنني أن أعطي لجلالته نظرة كاملة عن اتجاهات الرأي العام في الأزمة الحاضرة. وقد قلت لصاحب الجلالة: إن الحالة في المغرب دقيقة وإن الظروف التي تجتازها البلاد ظروف حيوية، ويجب أن نواجهها بكل حزم بعد الاستفادة من التجربة السابقة. وسألني جلالة الملك في موضوع الانتخابات، فكان رأيي هو أن الانتخابات البلدية المقبلة هي أهم البنود التي يتكون منها برنامج المغرب الجديد، وأننا نرى جميعا أن بناء الديمقراطية في المغرب ينبغي أن يكون من الأساس على مستوى البلديات والجماعات القروية، التي يجب أن تمكن الشعب من مباشرة شؤونه بصفة علمية. وطبيعي أن الديمقراطية تقتضي الحرية الصادقة، الحرية السليمة، يعني الحرية البنائية».

 

 

من يوميات المجلس الاستشاري بعيون أعضائه الشوريين

بعض قدماء حزب الشورى، أمثال الحاج معنينو، كتبوا في مذكراتهم عن تجربة المجلس الاستشاري الذي كان يترأسه المهدي بن بركة.

وهؤلاء لم يكونوا يخفون للمهدي، رغم أنه رئيس المجلس، الاتهامات المباشرة التي يوجهها إليه أعضاء الحزب وقياديوه بوقوف رجاله وراء تصفيات عدد من الشوريين.

كان فاضل الموقت، رئيسا للفريق الشوري في المجلس، لكنه توفي في حادث سيارة سنة 1959، وكان المهدي بن بركة وقتها قد حضر جنازته المهيبة، ليس باعتباره سياسيا مغربيا فحسب، وإنما باعتباره رئيسا للمجلس الاستشاري، مودعا أحد أعضاء المجلس.

لنترك هنا، حمزة الأمين، أحد قدماء ناشطي وأعضاء حزب الشورى والاستقلال، لكي يصف أجواء جلسات المجلس، كما كان يحكيها الحاج معنينو. يقول: «هذا المجلس الاستشاري أحدث فعلا للتداول في مواضيع الاقتصاد الوطني، بعد الاستقلال مباشرة. لكن الحاج معنينو كان يُحوله إلى مجلس لطرح المشاكل السياسية أيضا، وكان يضرب الطاولة وينفعل دائما خلال الجلسات. وكان عندما يذكره أحد بأن المجلس مختص في الاقتصاد الوطني، يجيب: «أنا غادي ندير السياسة».

جدير بالذكر أن رئيس المجلس كان المهدي بن بركة. وقد كان حزب الشورى والاستقلال ممثلا في هذا المجلس بعشرة أفراد: علي الكتاني، علي العراقي، وهما رجلا أعمال. محمد برشيد، وكان من كبار الأثرياء ووالده كان باشا. محمد الداودي، وكان صيدلانيا. الحاج أحمد معنينو، من علماء مدينة سلا. إبراهيم الهلالي. إدريس بنشقرون. محمود العلمي (كان رئيسا للكشفية الإسلامية وحارسا عاما لمدرسة مولاي الحسن، وزوجته هي فاطمة التهامي العلمي، التي كانت أول مولدة مغربية مكونة، حيث درست في الجزائر). ثم عبد الحي العراقي، ومحمد فاضل الموقت، الذي كان رئيسا للفريق الشوري في هذا المجلس.

كان الحاج أحمد معنينو صراحة يخطف الأضواء في هذا المجلس. إذ رغم أن صلاحيات المجلس كانت معروفة ومحددة، إلا أن معنينو كان يحضر معه ملفات الناس وقضاياهم ويطرحها على المجلس. وكثيرا ما كان سلوكه هذا سببا في احتدام النقاش، حيث كان يصيح ويضرب الطاولة بيده ويصر على إثارة المظالم على الأعضاء، رغم أنها لم تكن من اختصاصات المجلس الاستشاري».

+++++++++++++++++++++

 

كيف خُطط لأول مجلس مغربي بدون محمد الخامس

سبق في «الأخبار» أن خصصنا، ما بين سنتي 2014 و2021، أكثر من ثلاثة ملفات لإعادة تشكيل الخط الزمني لأحداث منسية كان الهدف منها تجاوز أزمة العرش التي دخل فيها المغرب، بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس في غشت 1953.

هذه الكواليس التي لولا الأرشيف الفرنسي ومذكرات بعض قادة الحركة الوطنية، وعلى رأسهم محمد بن الحسن الوزاني، مؤسس حزب الشورى والاستقلال، لما رُفع عنها الستار. إذ بعد إدراك فرنسا والموالين لها من الأعيان المغاربة وكبار العلماء، أن بن عرفة لن يصمد طويلا في الحكم، بدأ التفكير في طريقة تكون أكثر «ديمقراطية» لإسكات غضب الشارع وإسدال الستار على مرحلة بن عرفة. وهكذا بدأ التخطيط لتشكيل حكومة مغربية سنة 1954، وإحداث توافق بين مختلف المكونات للخروج بمجلس يشترك في ممارسة الصلاحيات السابقة للسلطان محمد الخامس قبل نفيه.

من بين الأمور التي سبق وأن أثرناها في «الأخبار»، موضوع تحالف الكتاني والكلاوي والفاطمي بن سليمان -هذا الأخير احتفظ بنفس الحظوة والتقدير لدى الملك الراحل محمد الخامس، بعد عودته من المنفى-.

هؤلاء الثلاثة كانوا يشتغلون لتأسيس أول حكومة مغربية، مباشرة بعد نفي السلطان محمد بن يوسف إلى «كورسيكا» ومدغشقر في غشت 1953.

وكان مشروع هذه الحكومة يقتضي وجود بن عرفة، السلطان الذي لم يحظ بالشرعية عند المغاربة، رغم أنه من أبناء عمومة السلطان الشرعي، على رأس هرم التجربة وأن يُعين الوزير الأول لتلك الحكومة.

وحسب الأرشيف، فإن الفاطمي بن سليمان الذي اكتسب خبرة كبيرة في الوزارة والدواوين عندما اشتغل في سلك المخزن، أيام السلطان مولاي يوسف، ثم مع ابنه محمد بن يوسف، كان المرشح الأبرز لكي يكون على رأس «حكومة الثلاثة». إذ إن الأرشيف لم يشر أبدا إلى تشكيل حكومة بأسماء وزارية، بل كان أقرب إلى مجلس للحكم، يتقاسم فيه الثلاثة سلطات واسعة ويفوضون صلاحيات لموظفين في دواوينهم.

كان الفاطمي بن سليمان على وشك أن يُعين لقيادة التجربة، وهو ما ورد في مذكرات الباشا الكلاوي التي نشرها ابنه عبد الصادق الكلاوي، سنوات بعد وفاة الباشا، وجمع فيها أرشيف رسائل والده، لولا أن فرنسا استجابت للضغط المغربي وقررت التمهيد لعودة الملك الراحل من المنفى.

تبخر حلم الكلاوي لكي يحكم المغرب من خلال مجلس لتدبير أزمة العرش. إذ إن فشل محمد بن عرفة في أن يحظى بشعبية لدى المغاربة، عجل بضرورة رحيله أو سحب السلط منه على الأقل وإبعاده عن الأضواء، وهكذا جاءت فكرة هذه «الحكومة» الثلاثية بين الكلاوي وعبد الحي الكتاني والفاطمي بن سليمان، ولم تكد سنة 1955 تلقي بظلالها على المغرب، حتى بدأت تلوح علامات الانفراج، خصوصا وأن أخبار إذعان فرنسا بدأت تتسرب من محادثات «إكس ليبان»، وهناك بدأ الذين دعموا نفي السلطان محمد بن يوسف وبايعوا بن عرفة يتحسسون رؤوسهم.

وكل الذين دعموا تجربة بن عرفة وتداعياتها، سُجلوا في لائحة الخونة. بل إن الباشا الكلاوي نفسه وُجد خارج الأحداث تماما، بمجرد ما وصل السلطان محمد بن يوسف إلى باريس. حتى أن الفرنسيين أنفسهم في الرباط لم يعودوا يتصلون بالكلاوي، لإحاطته علما بالتفاصيل. وأجهضت فكرة مجلس الأزمة الذي كان مقررا أن يشكله مع الكتاني وبن سليمان، للنيابة عن بن عرفة.

إلى درجة أن الكلاوي حمل هاتفه وبدأ يتصل بالوطنيين لأول مرة في حياته، حيث ربط الاتصال بمحمد بن الحسن الوزاني، الذي كان في قلب المباحثات مع فرنسا لعودة السلطان محمد بن يوسف، على اعتبار أنه من أبرز رموز الحركة الوطنية. وعندما اتصل الكلاوي بالوزاني، اغتنم الأخير الفرصة لكي يدعوه إلى دعم عودة السلطان، قبل أن تستميله فرنسا مجددا إلى صفها ويغير موقفه، وفعلا استجاب الباشا للمبادرة، وهو ما أكده الوزاني في مذكراته «حياة وجهاد». ذهب الكلاوي في رحلته الشهيرة إلى فرنسا، بعد أن قبل السلطان لقاءه، وأعلن توبته هناك وطلب الصفح من السلطان.

كانت عودة الكلاوي من باريس مغايرة تماما لكل رحلاته السابقة، حيث نزل من الباخرة شخصا بدون صلاحيات ولا نفوذ ولا مستقبل. وأدرك أن الحكومة المغربية المقبلة لن يكون له نهائيا أي مكان داخلها، وأن مرحلته قد طُويت نهائيا.

 

 

في أول خطاب عند تأسيس المجلس محمد الخامس أعلن أنه يُخطط لـ«انتخابات»

كانت الأنظار كلها موجهة إلى الملك الراحل محمد الخامس وهو يتلو كلمته أمام أعضاء المجلس الوطني الاستشاري، الذي تأسس يوم 12 نونبر 1956.

من أبرز ما جاء في كلمة السلطان محمد بن يوسف، ما يلي:

… «وإن تأسيس هذا المجلس حدث عظيم بالنسبة إلى بلادنا، بل إنه من أهم الأحداث التي تمت في عهد الاستقلال، ونحن لا ندعي أنه أكثر من كونه خطوة أولى نحو الهدف المنشود، أما الهدف الذي لن ندخر جهدا في العمل على إبلاغ شعبنا إليه فهو حياة نيابية بالمعنى الصحيح، تمكن الشعب من تدبير الشؤون العامة، في دائرة ملكية دستورية، تضمن المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات، حتى يتم بذلك خلق ديمقراطية مغربية بناءة. (..) إننا نرجو مراعاة المرحلة التي تجتازها بلادنا ومعرفة ما يمكن تنفيذه وما يتعذر تحقيقه من الرغبات، فإن ذلك ضروري لعدم إضاعة الوقت في دراسة مسائل لم يحن إبانها، أو لا يمكن في الوقت الحاضر إنجازها. (..) وقد عملنا على أن تتمثل في هذا المجلس كل النزعات السياسية الوطنية وسائر المهن الحرة ومختلف المصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حتى يكون مرآة صافية لحياة الأمة ومجالا لعرض أفكارها، وقد تحرينا -علم الله- فلم نراع فيمن اخترناهم مباشرة إلا الكفاءة والخبرة بالشؤون التي يمثلونها، وليس معنى ذلك أننا مطمئنون لهذه الطريقة، بل إننا متيقنون أن الانتخابات الحرة هي أقوم وأنجع سبيل لضمان إقامة ديمقراطية سليمة، ونحن عازمون بحول الله على تغيير أوضاع هذا المجلس بمجرد ما تتيسر السبل لذلك، من تمهيد للطريق، ووضع إطار للحياة النيابية، وهكذا ستتبدل طريقة اختيار الأعضاء من التعيين المباشر أو من قوائم الهيئات إلى أسلوب الانتخابات الحر، ويزاد إلى جانب الاستشارة حق الاقتراح للمشروعات ومراقبة أعمال الحكومة وإبداء الملاحظات في السياسة العامة للدولة، وإننا لنعتبر هذا المجلس في طوره الأول بمثابة ميدان يتبارى فيه الأعضاء على ممارسة تجربة لا بد من المرور بها، للمشاركة في الشؤون العامة والاهتمام بها».

وختم الملك الراحل كلمته إلى أعضاء المجلس بالقول: «أيها الأعضاء المحترمون، إننا نفتتح مجلسكم اليوم وندعوكم للقيام بواجبكم (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، والله يرعانا وإياكم ويسدد خطانا جميعا إنه نعم المولى ونعم النصير. والسلام عليكم ورحمة الله».

إطلاق المجلس كان بداية فعلية لكواليس أول «مطاحنة» سياسية في المغرب، حيث تحول مقره إلى موعد من الجلسات التي حاول المهدي بن بركة، بصفته رئيسا للمجلس، استقطاب مُريديه حوله. حتى أن بعض أعضاء حزب الاستقلال المؤسسين والتاريخيين، لم يكونوا يُخفون إحساسهم أن المهدي سرق منهم الحزب. بل هناك من احتج بشدة على غياب علال الفاسي، وانشغال بلافريج بالوزارة الأولى، وترك الحزب بين يدي بن بركة الذي كان وقتها يتمتع بشعبية كبيرة جدا.

 

 

 

هكذا عُين أعضاء المجلس بعد منافسات «طاحنة»

أكبر التحديات التي كانت أمام الملك الراحل محمد الخامس بمجرد عودته من المنفى في نونبر 1955، تتمثل في خلق ما يشبه الإجماع حول ممثلي الأمة من أعوان السلطة، خصوصا القواد والباشوات.

كان أغلب هؤلاء متهمين بخيانة الملك الراحل والتوقيع على لائحة الباشا الكلاوي الشهيرة سنة 1953، والتي دعا فيها إلى تنحية الملك الراحل محمد الخامس من العرش.

وبعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى، وتغير الأحوال الداخلية للبلاد، كان لا بد من إعادة النظر في هرم الإدارة المغربية.

هذا التغير تمثل في خلق جيل جديد من المغاربة الذين أنهوا دراستهم العليا بالخارج، وآخرين تخرجوا من المدارس العصرية في المغرب، وكان لا بد من إحداث مناصب إدارية لتشغيلهم وتعويض الفرنسيين في الإدارات القارة التي ورثها المغرب عن فرنسا.

وحتى عندما تم إحداث الحركة النقابية في المغرب، صار متجاوزا أن ينتظر الناس من أعوان السلطة، من مقدمين وقواد وباشوات، أن يتحدثوا باسمهم.

وبحكم أن الملك الراحل كان يفتح مكتبه يوميا لاستقبال الطلبة المغاربة والوطنيين، وغيرهم من النشطاء، فإنه تلقى اقتراحات كثيرة بشأن تأسيس الحياة السياسية والنيابية في المغرب.

فبعد سنة بالضبط على عودته من المنفى، تأسس المجلس الاستشاري وتولى المهدي بن بركة رئاسته.

لماذا بن بركة؟

الجواب أن المهدي كان من بين كبار المتحمسين لفكرة إنشاء برلمان مغربي، اختير له اسم «المجلس الاستشاري».

كان هناك وعي كبير داخل المغرب باستحالة تنظيم انتخابات وطنية، رغم وجود منخرطين في الأحزاب السياسية ونقابيين ومهنيين سبق لهم حضور جلسات في مجالس الفرنسيين. لكن تنظيم انتخابات وطنية ما بين سنتي 1955 و1956 كان مستحيلا، بسبب الظروف العصيبة التي كانت تمر بها البلاد.

وهكذا، فقد تقرر أن يتأسس المجلس الاستشاري بتعيينات مباشرة يوافق عليها الملك الراحل محمد الخامس، بعد أن يرفعها إليه ممثلون لأطياف الحياة السياسية والنقابية في المغرب، وتم تشكيل اللائحة.

هنا يورد لنا الباحث المغربي عبد الرزاق السنوسي، في مقال له سبق أن نُشر في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، بعض كواليس تأسيس هذا المجلس ولائحة الأعضاء الذين مثلوا فيه الشعب. يقول: «كان المهدي بن بركة رئيسا للمجلس، والمحجوب بن الصديق والتهامي عمار نائبين له، والدكتور بناني والهاشمي بناني أمينين، والحاج أحمد المذكوري، والفقيه الحاج محمد داود، وأحمد أولحاج مستشارين، وأحمد مكوار، رئيس اللجنة السياسية، والطيب بن بوعزة، رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية، ومحمد العراقي، رئيس لجنة الميزانية، وبنسالم جسوس، رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية.
كان المجلس الوطني الاستشاري يتكون من 76 عضوا، يمثلون الأحزاب السياسية والهيئات النقابية ومختلف المنظمات الوطنية والمهنية والثقافية. من بينهم 10 أعضاء من حزب الاستقلال، و6 أعضاء من حزب الشورى والاستقلال، و6 أعضاء من المستقلين، و10 أعضاء من الاتحاد المغربي للشغل، و9 أعضاء من التجار والصناع، و18 عضوا من الفلاحين. أما باقي الأعضاء وعددهم 17 عضوا، فيمثلون العلماء والأطباء والشباب والمهندسين وغيرهم، وكان عدد اليهود أربعة: سلومون بن سباط يمثل الأحبار، ولوسيان بن سيمون شخصية سياسية مستقلة، وجو أوحنا، وداود بن ازراف يمثلان التجارة والصناعة».

 

 

هل كان المهدي بن بركة ديكتاتورا؟

وُجهت بعض الاتهامات من طرف قدماء الحركة الوطنية الذين كانوا يتابعون الأوضاع السياسية في المغرب بعد تشكيل المجلس الاستشاري، إلى المهدي بن بركة بصفته رئيسا له.

وبعض الكواليس أفادت بأن بن بركة كان يعتبر نفسه، وهو في كرسي رئاسة المجلس، أهم من الوزير الأول.

حتى أن بعض النكات التي تم تداولها في صالونات الرباط كان مخترعوها يقارنون بين المهدي بن بركة، رئيس المجلس، ومولاي أحمد بلافريج، الوزير الأول، ويخلصون في الأخير إلى أن كلاهما مُعينان من طرف الملك الراحل محمد الخامس، فلماذا يعتبر بن بركة نفسه أكثر شعبية؟

كان المهدي بن بركة لا يرغب في تكرار تجربة المجلس الذي كانت قد أنشأته فرنسا خلال أربعينيات القرن الماضي، والذي حضر فيه المهدي بن بركة إلى جانب شخصيات مغربية أخرى. إذ إن هذا المجلس الفرنسي كان قد انفجر بسبب الخلافات حول التسيير. وكان المهدي بن بركة يدرك أن حزب الاستقلال كان حزبا كبيرا، لكنه لن يتسع لزعيمين.

وفي حالته تلك، كان أحمد بلافريج، برصيده التاريخي وشعبيته الكبيرة ومكانته الاعتبارية الكبيرة في سلا، زعيم حزب الاستقلال، خصوصا وأن علال الفاسي كان قد توارى عن الحياة السياسية، بعد عودته من القاهرة مع فجر الاستقلال.

بينما كان المهدي بن بركة يُعتبر مُنظر الحزب ومركز الأحداث داخله. وعندما أصبح رئيسا للمجلس الاستشاري، صار المهدي بن بركة يتمتع بصلاحيات لم تكن في الحقيقة تتجاوز النقاش في الوضع العام للبلاد. إذ إن إحدى نقاط ضعف هذا المجلس أنه لم يكن يساهم في التسيير، بقدر ما كان فقط مجلسا للتداول في الشأن العام وإبداء الآراء، ووضع مقترحات.

لكن المهدي بن بركة بشغبه المبكر، كان يحاول جعل المجلس أداة للضغط وفرض التشريع، سيما في ملف جلاء القوات الأجنبية عن المغرب.

وهو الشعار الذي دافع عنه بن بركة، بعد تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959. بل يمكن القول بكثير من الثقة إن كل ما أراد المهدي بن بركة الدعوة إليه في تجربة المجلس الاستشاري، تحقق له عند تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم. إذ إن تحرير الاقتصاد الوطني وموضوع اللغة العربية في الإدارات وإخلاء القواعد العسكرية الأجنبية في المغرب، كلها ملفات ساخنة تناولها المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم في التجربة الحكومية لسنة 1959.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى