
خالد فتحي
الانتحار نوعان: الأول مادي كأن يلقي شخص بنفسه من شاهق مثلا، والثاني معنوي، كأن يلقي، على طريقة بايرو، خطابا في الجمعية الوطنية، يطلب منها منحه الثقة وهو يعلم أن الأغلبية فيها تطلب جلده .
ربما رئيس الحكومة الفرنسي هذا شخص أرعن سياسيا، أو رجل أصابته لعنة امرؤ القيس، فرضي من الغنيمة بالإياب، أو لربما أكثر من ذلك، أنه مصاب بمتلازمة عشق الموت فوق خشبة المسرح على مرأى من الجمهور، ولذلك لبس في لحظاته الأخيرة ثوب الواعظ الناصح، الذي لا يحذر الفرنسيين من سوء العاقبة هناك في الآخرة، ولكن يحذرهم منها هنا في هذه الدنيا العاجلة، ففرنسا، كما شخص مرضها، مرت للسرعة القصوى في الانحدار نحو قعر الهاوية الاقتصادية. لقد أفلست باختصار. صارت يونان أخرى، ولكنها يونان قد تودي بكل الاتحاد الأوربي معها.
من عادة المصيبة الاقتصادية أن تستدعي معها المصيبة السياسية، وبعدهما معا، تحل القارعة الاجتماعية، وقد تتبعها جميعا المعضلة الأمنية.
الذي يستمع لـ60 مليون محلل فرنسي، وهم ينحون باللائمة على ديمقراطيتهم المريضة التي خذلتهم، يشعر بأن فرنسا صارت على شفا ربيع فرنسي صاخب وصعب.
فهل يا ترى يكون بايرو تلك البجعة السوداء التي تجلب معها هذه العاصفة القادمة؟ وهل يكون ماكرون أول رئيس فرنسي تطيح به احتجاجات شعبية بعد الثورة الفرنسية على غرار ما وقع للويس السادس عشر؟
مثل هذه الاستطرادات التخيلية أو التوقعية تدل على أن فرنسا توجد بالتأكيد أمام سيناريوهات عديدة أحلاها علقم، أولها حل الجمعية الوطنية للمرة الثانية، في العهدة الثانية لماكرون وتنظيم انتخابات مبكرة، لكن عيب هذا الخيار أن فرنسا قد تلدغ منه مرتين، إذ قد يفاقم الأزمة، ولا يحلها. الفرنسيون سئموا هذا الاقتراع الذي لا يؤدي إلى استقرار، وقد لا يتوجهون للصناديق، وحتى إن توجهوا، سيفرزون الخريطة السياسية السابقة نفسها.
ثانيها، تعيين حكومة جديدة تواصل النهج الماكروني في الحكم.. وهذا يعني الاستمرار على العلاج غير الفعال نفسه، أو يلجأ ماكرون لرمي مفاتيح قصر ماتنيون في وجه اليسار «المنقسم»، ويتركه يتحمل معه وزر الأزمة من خلال حكومة تعايش.. ولكن حكومة التعايش هاته، هي نفسها الدليل الأكبر على استمرار سوء الحال، لأنها دائما ما تحمل تناقضات قاتلة، وقد يفشلها الشارع في مدة اقصر بكثير مما استغرقه بايرو .
أما ثالث السيناريوهات، فهو عودة السترات الصفراء واندلاع المظاهرات، ومكافحتها مرة أخرى بالقنابل المسيلة للدموع بجادة الشانزليزي، حيث سيخرج المهمشون المقصيون الذين يلعنون برامج الحكومات المتعاقبة التي لا تعبأ بهم، وينزلون جموعا هادرة تهتف ضد الرئيس، وضد اليسار، واليمين، ووسط اليسار، ووسط اليمين، ووسط الوسط.. وهنا يصبح تطرف الاحتجاجات، وتطورها إلى ما لا تحمد عقباه أمرا منتظرا.
بايرو، الذي يقف موقف غير العابئ بمصيره، لا يبدو لي متهورا، بقدر ما يبدو لي طالبا لـ«الشهادة» يوم 8 شتنبر، جادا في تجسيد هذه «البطولة الحلاجية» ذات النوع الخاص: الذهاب إلى مقصلة التصويت النيابي بعينين مفتوحتين.
لقد اطلع على ما في الطنجرة، ولعله يقول في نفسه إنه غدا، ومهما انتقدوه اليوم، سيتذكرون بعد أن يقيلوه أنه كان زرقاء اليمامة التي لم يصدقها الفرنسيون.
إنه، ودون شك، لا يخشى هذه النهاية «الدرامية» ويسعى لها، فهو يعي أن الكل مسؤول عما انتهت إليه فرنسا، ويعرف فوق ذلك أن لا أحد يمتلك وصفة سحرية للخلاص، لا يمينا ولا يسارا.
الأزمة الاقتصادية الفرنسية ليست مجرد أرقام سلبية في الناتج الوطني أو الدين العام، إنها أعمق بكثير، إنها تآكل الثقة الشعبية في النخبة السياسية برمتها، وفي بنية الدولة ذاتها. إن فرنسا تخسر الآن كنموذج حكم حضاري خسرانا مريعا: الطبقة الوسطى محطمة، مهانة، محبطة، لا يلتفت لها، وهي تتضاءل حكومة بعد حكومة. والطبقة الدنيا الهشة تعاني حالة إلغاء وجودي، فيما الطبقة السياسية لاهية بصراعاتها، تقبع في أبراجها العاجية، تمارس الجدل البيزنطي، وتتناقر كالديكة في ما بينها. إنه الانفصال التام بين الدولة وناسها، وبين السياسة وأحلام المواطنين.
واقع الحال يشير إلى أن الجمهورية الخامسة لفظت أنفاسها، فهي لا تمر بأزمة تقنية، ولا تعاني من حمى عابرة، بل فقدت شرعية استمرارها، فحين يفض البرلمان في ربيعه الأول أو الثاني، وتصبح الحكومة كالريشة في مرمى الأهواء الحزبية، ويعود الرئيس معدم القاعدة الشعبية، فإن النظام السياسي يكون قد دخل مرحلة النزع الأخير، وتكون ديمقراطيته قد ماتت قبله سريريا، ماتت، وإن كانت لا تزال حريصة على تمثيل المظاهر. ذلك أن الديمقراطية يجب أيضا أن تمنح طحينا لشعوبها، لا أن تملأ آذانهم جعجعة وضجيجا فقط.
فرنسا الآن تعيش قلقا وجوديا، والفرنسيون صاروا يعبرون عن السياسة بوصفها مرادفا للاجدوى. ولذلك فإن الأيام الصعبة على الأبواب. لقد ولى الرخاء الفرنسي، ولربما أن قومة السترات الصفراء الأولى ما كانت إلا الهزة الممهدة للزلزال الحقيقي الذي ينتظر منذ 2018، فعندما تغيب اللغة السياسية الموحدة، وينتفي «المعنى الجمهوري»، لا بد أن يظهر الغضب الساطع، كما غنت فيروز، سواء في الشارع، أو الضواحي، وسواء جاء من الطلبة، أو العمال، أو المهاجرين.. أو لعله الآن سيحمل على ظهور غالبية الفرنسيين الذين ما عادوا يتعرفون على أنفسهم في هذه الجمهورية.
فهل يكون ماكرون أول رئيس يسقطه الربيع؟ كل شيء ممكن.. الفرنسيون بدؤوا يهمسون لبعضهم البعض بذلك، بل هناك سياسيون يعملون جهارا لأجل أن لا ينهي هذا الرئيس ولايته ويخرج من الباب الضيق.
على فرنسا الآن أن لا تنسى، وهي تضع التدابير الشديدة، أن تجيب عن أسئلة كثيرة أهمها: ما معنى أن تكون فرنسيا الآن؟ وما العلمانية في زمن التعدد؟ ومن يحكم فرنسا بالفعل؟ ومن يمثل فيها من؟ وما مصير الجمهورية الخامسة؟ وكيف يجب أن تكون الجمهورية السادسة؟ وما الطريق إلى هذه الجمهورية المنقذة؟ وكيف تكون هذه الطريق سلاما لا هلاكا؟ وأخيرا هل شعار حرية مساواة إخاء ما زال ساريا؟
كل هذه الأسئلة لم تعد ترفا فكريا، إنها لتنفجر كالقنابل في وجوه الساسة، وفي الشوارع، والجامعات، والإعلام، وفي كل مؤسسات المجتمع. لقد قرعت الحقيقة طبولها.
على فرنسا أن تقوم بالنقد الذاتي، وأن تنظر هل لا تزال على هدى فلسفة الأنوار الصافية الأولى؟ وتسرع بالإصلاح أو حتى بالثورة على نفسها… فالمطلوب أن تجد حلا جذريا لأزمتها، لا أن تتعود إدارتها وتدويرها، وأن تتذكر في كل هذا قولة نيتشه الشهيرة: عندما تحدق في الهاوية طويلا تبدأ الهاوية بالتحديق فيك .





