
ماتزال تداعيات المداخلة التي قام بها وزير قطاع التعليم العالي أمام لجنة التعليم بالبرلمان في تفاعل مستمر، خصوصا بسبب صراحتها الصادمة لاحتوائها معطيات لطالما اعتبرت خطوطا حمراء عند مدبري الجامعات. من هذه المعطيات استغناء بعض الجامعات عن الميزانية التي تأتيها من الحكومة سنويا، واكتفاؤها بعائدات التكوينات المستمرة، وهي كما نعلم بملايير الدراهم، لتظهر مفارقة صارخة. ففي الوقت الذي تعيش فيه الجامعات العمومية تخبطا كرسته الاختيارات السياسية للحكومات المتعاقبة، تعرف هذه الجامعات طفرة نوعية في التكوينات المستمرة، سيما الجامعات التي تقع في مدن تحتضن مناطق صناعية، من قبيل طنجة والدار البيضاء والقنيطرة وسطات، حيث سجلت في السنوات الخمس الأخيرة رقم معاملات ضخما للغاية، مكَّن بعضها من الاستغناء عن المال العام في العديد من مشاريع البنية التحتية. المرونة، التي تتسم بها عملية صرف الميزانية القادمة من هذه التكوينات، جعلت جامعة سطات، مثلا، تحقق الاستقلالية المالية التامة عن الميزانية التي تحصل عليها من المالية العمومية.
تحدي الشفافية في صرف العائدات
ففي الوقت الذي يعترف فيه الجميع بوجود أزمة مركبة تعيشها الجامعات العمومية (الهدر الجامعي، ضعف البحث العلمي، عدم مناسبة التكوينات لحاجيات سوق الشغل، الحكامة…)، نجد، بالمقابل، أن هذه الجامعات تعرف انتعاشة غير مسبوقة بسبب دخولها سوق التكوينات المستمرة لتنافس مؤسسات التعليم العالي الخاصة، حيث تمكنت جامعات الدار البيضاء وسطات والقنيطرة وطنجة من تسجيل رقم معاملات يقدر بالملايير، ناتجة عن شراكاتها مع شركات خاصة تطلب تكوينات معينة في تخصصات تقنية وعلمية فائقة الدقة، لفائدة مستخدميها، تستجيب للطفرات الهائلة التي يعيشها عالم الذكاء الاصطناعي.
بدأت موجة انفتاح الجامعات العمومية على عالم المقاولات والشركات قبل عشر سنوات، ونظرا لبعض مظاهر الفساد التي شابت مسألة الإشهاد، أي الشهادات التي يتم منحها للمستفيدين من التكوينات المستمرة، تدخل الوزير السابق لحسن الداودي ومنع تسمية هذه الشهادات بالتسميات المعتادة (إجازة–ماستر–دكتوراه)، وألح، بالمقابل، على أن تتضمن هذه الشهادات بشكل صريح إشارة تفيد بأنها شهادات للتكوين المستمر. مظاهر الفساد هذه سيقف عندها تقرير سيصدر لاحقا عن المجلس الأعلى للحسابات.
تهافت الجامعات على التكوينات المستمرة مرده، حسب خبراء متمرسين، إلى أن عملية صرف الميزانية التي تخصصها الوزارة للجامعات تعرف تقييدا يعرف بـ«نظام الأسطر»، حيث يمنع على رؤساء الجامعات تحويل الميزانية المخصصة للمعدات، مثلا، إلى الميزانية المخصصة للحراسة أو الصيانة، بينما عملية صرف الأموال المتأتية من التكوينات المستمرة تعرف مرونة كبيرة، إذ يخصص لها حساب بنكي مستقل ويتم صرفها دون اعتماد نظام الأشطر..، حيث يكفي أن يقر مجلس الجامعة تبني مشروع معين ليتم تخصيص ميزانية خاصة به دون مشكلة.
هذه المرونة مكنت بعض الجامعات من خلق فضاءات جامعية غير مسبوقة غيرت بشكل ملحوظ بنية المؤسسات الجامعية المنضوية تحت لواء هذه الجامعات، كما هو الشأن، مثلا، في جامعتي سطات والقنيطرة، هذه الأخيرة التي أضحت تعد نموذجا للمدينة الجامعية المتكاملة، بفضل الفضاءات الذكية التي تم خلقها (محطة لتصفية المياه، تعميم الطاقة النظيفة، ملاعب جامعية بمواصفات أولمبية دولية، مسرح جامعي، فضاءات للطلبة..)، وكل هذا بفضل عشرات الشراكات التي تم عقدها مع خواص، شركات ومقاولات تنشط في سلاسل إنتاجية متعددة في المنطقة الصناعية الكبيرة التي جرى استحداثها في السنوات الأخيرة.
مواكبة مناخ الاستثمار.. لكن
مناخ الاستثمار الذي يحرص المغرب، وعلى أعلى مستوى، على توفير شروطه، جعل بلادنا وجهة مفضلة للعديد من الشركات والمقاولات الأجنبية الكبرى، وفق بيانات حكومية، ويعود ذلك إلى تحسن متواصل لمناخ الأعمال إلى جانب الاستقرار السياسي والأمني الذي تعيشه المملكة، حسب آراء خبراء في الاقتصاد.
لكن، من جهة أخرى، لا تتوقف طلبات المقاولات والشركات الأجنبية عند الشروط القانونية لتشجيع الاستثمار، بل تصل حاجياتها أيضا إلى توفير يد عاملة مؤهلة تأهيلا علميا ومهنيا عاليا، وفي هذا يعيش النظام الجامعي المجاني أزمة حقيقية، ما دفع متخذي القرار في قطاع التعليم العالي إلى تبني ما يعرف بنظام «الباشلر»، قبل التراجع عنه في ما بعد، والشروع في وضع نظام جديد يعتمد اللغة الإنجليزية لغة إجبارية.
فالذي يحصل، مثلا، أن شركة سيارات فرنسية معروفة، كانت ترسل مستخدميها وتقنييها إلى رومانيا قبل سنوات قصد الاستفادة من التكوين في مجالات تقنية تهم سلسلة إنتاج بعض سياراتها، وهذا يكلفها كثيرا، غير أنها استقرت في السنتين الأخيرتين على تكوين هؤلاء في جامعة مغربية مقابل مبالغ مالية ضخمة..، حيث يتم الاتفاق بين مسؤولي الشركة ورؤساء بعض الجامعات على التكوين في تقنية رقمية أو ميكانيكية جديدة، مقابل مبالغ يدفع جزء منها المستخدمون أنفسهم، وخاصة الراغبين في تحسين وضعهم المهني داخل هذه الشركة، وجزء منها تتكفل به الشركة. وهو الأمر الذي وصفه مسؤول جامعي بـ«شراكة رابح رابح».
فرغم رفع الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عقد لشعار «مواءمة الجامعات مع حاجيات سوق الشغل»، نجد الجامعات المغربية، حسب مراقبين، عاجزة عن تحقيق هذا الهدف في نظامها البيداغوجي الرسمي (إجازة–ماستر–دكتوراه)، إلا أنها استطاعت في السنوات الأخيرة أن تخلق تكوينات مستمرة مؤدى عنها، تحقق هذه الغاية لكونها تتوفر على الموارد البشرية الكفيلة بضمان جودة التكوينات في هذه المجالات التقنية والعلمية المطلوبة من طرف الشركات، وأيضا بفضل توفر هذه الجامعات على الفضاءات المناسبة لاحتضان هذه التكوينات، ووصل الأمر حد أن مركبات التكوين المستمر في العديد من الجامعات تكون ممتلئة عن آخرها في أيام الجمعة والسبت والأحد، لكون الفئات المستهدفة مكونة من مستخدمي وتقنيي الشركات، في إطار ما يعرف بـ«تكوينات بزمن مُكيَّف» (les formation a temps aménagé).
يذكر أن الوزير السابق لحسن الداودي كان أول وزير يتحدث رسميا عن الموضوع، وأصدر قرارا ينظم العلاقة بين التكوينات الجامعية التقليدية، أي المجانية، والتكوينات المستمرة المؤدى عنها، لتبقى المشكلة هي عدم مواكبة الترسانة القانونية المنظمة لوظيفة الجامعات لهذا المستجد، حيث لم يتعد منشور وزاري صادر في هذا الشأن عتبة «مذكرة وزارية» صادرة في عهد حكومة عبد الإله بنكيران الأولى، والتي دعت رؤساء الجامعات إلى التمييز بين تسمية الشهادات المسلمة من طرف الجامعات في إطار التكوين المستمر «diplômes d’université»، وبين تسمية الدبلومات الوطنية «إجازة، ماستر، دكتوراه».





