
تتفاعل داخل الدولة الواحدة عوامل الوحدة والتعدد تفاعلا دائبا من غير أن يَعْرِض لها من ذلك أي أثـر سلبي في وظائفها كدولة. بل الأدق أن يقال إنها من دون تلك الجدلية المستمرة بين عوامل الوحدة والتعدد في جسمها لا تملك أن تشتغل على نحو من الانتظام الذي يستقيم به فعل وظائفها. هذه من الوقائع الاعتيادية في عمل أي دولة – خاصة التي من نوع الدولة الوطنية الحديثة – وإن كان لا يُنْتَبَه إليها ولا تُـلْحظ من الناس في يومياتهم، شأن كثير غيرها من الظواهر التي لا تُلْحَظ، وإنما تُدْرَك بالنظر والدرس والتحليل. وهي – في اتساقها وفي تيسيرها عملَ الدولة وأجهزتها – جدليةٌ تقيم الدليل على خصوبتها في الحياة العامة نظير خصوبتها في الحياة الخاصة وفي الطبيعة، وتدحض ما يذهب إليه كثيرون من اصطناع العوازل والتناقضات بين آليتين متكاملتين يرادُ أن يُنْظَر إليهما وكأنهما على طرفي نقيض.
قد يُسْتَدرَك على هذا الكلام بالقول، اعتراضا أو نقدا، إن الدولة – بطبيعتها – هي مبدأ الوحدة الأول في أي اجتماعٍ إنساني؛ إذ بها تصير الجماعة جماعة سياسية موحدة؛ وبها تصان وحدة الوطن وترابه؛ وبسيادتها واستقلال قرارها تتوحد الإرادات؛ وفي سلطانها المركزي تتحد السلطات الفرعية…، فكيف لكيان هو مبدأ الوحدة والباعث عليها أن يكون موطن فعْلِ جدلية بين عوامل الوحدة والتعدد فيه؛ ثم ألا يشكل ذلك خطرا على استقرار الدولة واستقامة عملها؟
ليس في الاستدراك النقدي السابق وجْهَ حجة تبطل القول بتلك الجدلية، لأن الجدلية هذه غير مبنية – إجمالا- على نفيِ عامل لعامل: الوحدة للتعدد أو التعدد للوحدة؛ فهي جدلية علاقة غير تنابُـذية بين حدين ليسا، دائما، متضادين. هذه واحدة؛ الثانية أن قَوام الدولة (هو)، فعلا فعل ذينك العامليْن فيها بالتضايُف والتضافر وبمقدار من السلاسة يبين عن فاعلية ذلك المركب
في نظام الاجتماع السياسي، بل عن الحاجة إليه لانتظام أموره. في وسعنا أن نستدل على اشتغالية جدلية الوحدة والتعدد في جسم الدولة بعديد الأمثلة، ولكن يكفينا بيانا لها المثالان التاليان عن سلطة الدولة:
نظريا؛ سلطة الدولة سلطة واحدة لا تتجزأ أو تقبل القسمة، مثلها في ذلك مثل السيادة، بل إن وحدة السلطة هي القرينة على سيادة الدولة. وتعني وحدة السلطة وحدة ولاية الدولة على مواطنيها جميعا. لكن منطق العمل يقضي بأن تتبدى هذه الولاية الواحدة في صورة ولايات متعددة، متمايزة الاختصاصات، تستقل الواحدة منهما عن الأخرى لتمارس وظيفتها بفعالية. هذه، مثلا، حال السلطات الثلاث في الدولة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي هي أيضا – وأساسا – سلطة واحدة: سلطة الدولة أو سلطة الأمة على نفسها بما هي، في الدولة الحديثة، مصدر السلطة. إن سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء سلطات للدولة واحـدة، ولكن الدولة تكلها إلى أجسامٍ ثلاثة فيها تجعل منها سلطات متعددة تَعَددُها شرط لوحدتها في المطاف الأخير. لهذا تدافع نظرية الدولة الحديثة عن مبدأ الفصل بين السلطـات؛ فهـو الضمانة بأن لا تستـولي سلطة على سلطة، فتفـتح الباب أمام التسلـط والاستبداد (= سلطة التنفيذ على التشريع أو على القضاء أو عليهما معا)، أو أمام الفوضى (= سلطة التشريع على التنفيذ والقضاء). هكذا يصبح التعدد – في الهندسة السياسية الحديثة – مبدأ أمان لنزاهة السلطة وأمانتها، ولخضوعها للقانون والمراقبة، فيما قـد تكون وحدة ما ينبغي له أن يكون متعددا سببا لجنوح سلطة الدولة نحو الانحراف عن وظائفها والتنكب عن النزاهة والتمثيل الأمين. ثم هكذا، أيضا، يصير التعدد في كيان الدولة وسلطتها شرطا لازبا لوحدتها.
ثاني الأمثلة نزوع الدولة إلى هنـدسة لجغـرافيات السلطة فيها قائـمة على نموذجي المركزية واللامركزية. كان مثل هذه الهندسة قد اختُبِر، في ما مضى، في الإمبراطوريات الكبرى (= الرومانية، العربية- الإسلامية…)، وأسفر عن نجاعته. ولم يختلف الأمر، اليوم، مع الدولة الحديثة حتى لا نقول إن الحاجة إليه زادت في امتداد زيادة تعقـد عمل الدولة. وإذا كان مبدأ المركزية مما يلائم، تماما، أي دولة لأنه يجسد وحدتها، فإن لمبدأ اللامركزية وظيفة عظيمة في تدارك الأخطاء التي قد تُولِّدها مركزية صارمة في عمل الدولة، بل قد يوفر آلية فعالة لتحقيق عملية إدماجٍ وصهْرٍ اجتماعيين ناجحة. وليس صحيحا أن اللامركزية لا تصلح إلا في الدول متعددة القوميات أو الأعراق، لا في الدول القائمة على مثال قومي صاف، بل هي تصلح حتى في هذا المثال الأخير (على ما تدلنا على ذلك تجربة الدولة في ألمانيا حاليا). كما أنه ليس من الصحيح في شيء أن اللامركزية قد تشجع على الانفصال وتنمي نزعاته، بل قد تكون – وذلك هو الغالب عليها – حائلا دونه والترياق السياسي لمداواته، وذلك من طريق إشراك الهوامش والأطراف في السلطة ورفع الشعور عن أهاليها بالنبذ والإقصاء والحرمان. بهذه الهندسة السياسية الجامعة بين الوحدة (وحدة السلطة ووحدة المركز) والتعدد (تعدد السلطة وتعدد مراكزها)، أمكن للدولة الوطنية الحديثة أن تحصن كيانها ضد ما قد يتهدده من أخطار من داخل الاجتماع السياسي.
عبد الإله بلقزيز





