شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

 حظوة الشعر الراسخة  

في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي وُوجِهت الشاعرة العراقية نازك الملائكة بنقد شديد من قِبَلِ الكُتًاب، الذين رفضوا حركة ((الشعر الحر))، أو ((الشعر الطليق)). ولأنها هي التي أطلقت هذه الحركة في العراق، فقد كان طبيعيا أن يتعرض كتابها «قضايا الشعر المعاصر» للنقد. ذلك أنها وضعت فيه قواعد لنظم الشعر الحر مخلصة إياه من قواعده الكلاسيكية القديمة.

اعتبر نقادها أنها تخلت عما أسموها ((اجتماعية الشعر)). وهو ما يسر أمر ردها عليهم، حيث كشفت أن نقد خصومها لا يتعلق أصلا بالشعر. هكذا أبرزت أن دعواهم لا تستند إلى أسس فنية شعرية. ذلك أن الدعوى التي تقول بأن الشعر يجب أن يكون «اجتماعيا» دعوى قاصرة، لأنها تركز على الموضوع الذي يصبح هو الغاية الوحيدة التي يتقصدها الشعر، فيتم إبعاد ما هو من صميم التعبير الشعري كالبناء اللغوي الخلاق والنظم الموسيقي، إلخ…

راح ذلك الزمن وراحت معه تلك المناقشات – وما أطولها كانت – إلى غير رجعة. ولم يعد لها من معنى يفيد المجتمع، بعد أن ترسخت حركة الشعر المعاصر بمقوماته الجديدة وأضحى المطلوب هو الإخلاص للشعر لا لغيره، ما دام كل شاعر يلتصق أصلا بالمجتمع في أبعاده المتعددة والمتداخلة، والتي تكون أحيانا شديدة التعقيد. فحين يشرع الشاعر في بناء قصيدته، فإنه ينجز ذلك وهو يفكر في أبعادها الفنية، مسترشدا بحدوسه في تدفقها وأنوار انبجاس إشراقاتها، فيشد ذاتَه أفقُ الخلق اللغوي المتجدد مقاوما الجمود والاجترار. وقد تكون موضوعاته متعددة زاخرة بإنسانيتها أو بوجوديتها. فهذا ارتباط لا مناص منه في وجدان الشاعر.

وجدان الشاعر ذاك هو ما يؤثر في المجتمع ذاته، وهو ذا الأبقى والأصلب في التجربة الفنية لكل شاعر أصيل مجدد متطلع إلى آفاق لم يسبق أن طُرِقت قبله.

فللشعر بصنفيه، الشفوي والمدون الخاضع لقواعد النظم والتقعيد، حضور قوي في المجتمع، ليس المجتمع القارئ وحده، بل المجتمع ككل. ذلك أن الشعر كالغناء هو في الأصل للسماع والاستماع. لذا تجد في المغرب مثلا أكثر الأنشطة الثقافية هي قراءات شعرية، حتى أننا نتوفر على منظمات ومؤسسات، بل ومهرجانات موسمية ثابتة للشعر خصيصا. وغير خاف أن المغرب هو البلد الذي كان وراء اقتراح تنظيم اليوم العالمي للشعر، والذي ينتظم في العالم كله في تاريخ مضبوط هو 21 من شهر مارس.

في المغرب – دائما، يحتل الشعر في البوادي والجبال والأرياف النائية عن الحواضر والتجمعات السكانية الكبرى مراتب لا غنى عنها في الأفراح والأعراس، بل ويقرأ في الأسواق البدوية. ففي الثقافة الشعبية المغربية الأمازيغية يحتل ((أَنْشَادْ)) (الشاعر باللغة الأمازيغية) مقاما متميزا في المواسم الشعبية، بل وفي لقاءات الأفراح العائلية نفسها. وفي جبال الأطلس تسمع الرعاة يصدحون في الأودية بالقصائد الملهبة للعواطف، والراعيات يترنمن في المغاور بالمتوهج من الأشعار الأمازيغية. هذا فضلا عن جلسات السماع الشعرية ذات المضامين الدينية الصرفة، التي لها مقاصد وغايات إيمانية وتربوية، والتي تنتظم في اللقاءات باللغات المغربية جميعها، عربية وأمازيغية وحسانية…ومن غرابة هذا الحضور الشعري في المجتمع المغربي الأمازيغي، أن «أَنْشَادْ» لا يتشبث التشبث كله لنَسْبِ قصيدِه إلى نفسه، إلى درجة أن معظم القصائد تضحى كأنها من تأليف جماعي وليست من إبداع مبدع بعينه.

يشير هذا كله إلى الحظوة الثابتة للشعر في المجتمع، باعتباره ظاهرة تعبيرية ((فردية – جماعية)) خالصة.

ومن الحسنات المُطَمْئِنَة أن الاحتفاء بالشعر وتكريم الشعراء الذين أَثْرَوْا القصيدة الشعرية في المغرب، بكل لغاتها، سلوك أمسى ثابتا في الأنشطة الثقافية، وفي ملتقيات الكِتَاب، وفي أنشطة المنظمات المدنية المستقلة، وغير ذلك كثير… بل إنه وفي مناسبات عدة يوظف الشعر ذاته لتكريم مكونات اجتماعية أخرى. وذلك مثل تكريم نضال المرأة المغربية، وتكريم الطفل حين يدهشنا بخلق منه باهر، وتكريم خدام المجتمع النظيفين من مختلف المهن والتخصصات من ذوي الأيادي البيضاء عليه.

وإذا كانت قد انتشرت في بعض مدن المغرب ما أصبح يطلق عليه (المقاهي الأدبية)، تنظم فيها أنشطة ثقافية من كل جنس، فإن الشعر والشاعر يحتلان في معظم هذه الفضاءات مواقع متقدمة تثلج صدور عشاقه.

أما في العالم العربي فما أعمق ما قدمه الشعر والشاعر العربيان الفلسطيني وغير الفلسطيني للقضايا العادلة التي تبقى شعوب هذا العالم معنية بها. في المغرب تحديدا، كم كانت مناسبات إطلالات الشعراء العرب بقراءاتهم وحضورهم السخي بعطاءاته مثرية على نحو متبادل، للتجربة الشعرية ككل.

وأنتَ لو تجاوزتَ الرداءة، وصرفت النظر كما هو مطلوب، عن الغث المنشور في الوسائط الراهنة، لاكتشفت أن أنظفها إنما هي نصوص أدبية وثقافية وفي مقدمتها الشعر وقراءات الشعراء لنظمهم أمام متذوقيه وعشاقه، أو في مناسبات متعددة ومختلفة تنظيم تكريم لهم تعظيما وترسيخا لحظوة الشعر والشعراء.

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى