شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

جزيرة العرندس

أمال الزيتوني

 

تربت أجيال من المغاربة على برامج ثقافية وترفيهية هادفة. لقد أثثت ذاكرتنا الطفولية الأولى مجموعة من الأفلام الكرتونية الناطقة باللغة العربية الفصحى، ونذكر منها على سبيل المثال، سلسلة الكابتن ماجد وسالي وصاحب الظل الطويل.. وغيرها الكثير من أعمال «الأنمي» اليابانية المترجمة إلى اللغة العربية الكلاسيكية، والتي ساهمت في تشكيل وعينا بالعالم وإدراكنا لقيم الصداقة والتحدي والشجاعة والطموح والتحلي بالروح الرياضية. يتذكر أبناء الجيل الذهبي البرنامج الأردني التربوي الشهير «المناهل» الذي كان يذاع على القناة الرسمية المغربية آنذاك. كنا نتابع يوميا حلقات «المناهل» التعليمية التي سافرت بنا شخوصها إلى عوالم الثقافة والعلم والتاريخ والجغرافيا. لقد صقلت هذه السلسلة الهادفة عقول أجيال كاملة من أبناء المغرب وباقي الوطن العربي، وساهت في تنمية مهاراتهم في التعلم وتطوير قدراتهم على الفهم. والأهم من ذلك أنها عززت رصيدهم اللغوي وساعدتهم في تعلم أبجديات واحدة من أهم وأجمل اللغات في العالم.

لا يخفى على أحد أن القنوات والإذاعات الوطنية كانت، إلى حدود الماضي القريب، بمثابة منارات فنية وثقافية تضيء المشهد السمعي والبصري في بلادنا. لم تقتصر التلفزة المغربية، مثلا، على تقديم محتويات ناطقة بالعربية فقط، بل قدمت، بالموازاة مع ذلك، برمجة سينمائية وغنائية وتثقيفية ناطقة باللغتين الفرنسية والإنجليزية. ورغم أن هذه الأخيرة ظلت غائبة بشكل رسمي عن الشاشة أو الراديو، ظل للغة الإنجليزية حضور لافت من خلال برمجة الأغاني المصورة التي ساهمت في انفتاح المواطن المغربي على «لينجوا فرانكا». هل لازال الإعلام المغربي بكل وسائطه رافدا من روافد التعلم والتربية الهادفة للجيل الناشئ؟

الجواب نجده في جولة مريعة بين ما يعرض اليوم على شاشاتنا من تفاهة وابتذال وتحريض على القبح. ماذا حدث للمناهل و C’est pas sorcierوأين اختفت اللغة الأنيقة لبيل وسيباستيان؟ ومن المسؤول عن السقوط الحر نحو هاوية الانحدار الذوقي في مؤسساتنا الإعلامية؟ إن التحولات البنيوية المقلقة، التي طرأت على العقل الجمعي المغربي، جديرة بالدراسة والتحليل لما كان لها من أثر كبير في انسحاب مفهوم القدوة المثالية من الإعلام وتعويضها بالبزناسة.

شاهدنا جميعا كيف تصدر الممثل ربيع القاطي التراند المغربي، الأسبوع الماضي، بعد انتشار مقطع طريف له وهو يردد أسماء الأسد المتعددة في قاموس اللغة العربية. ربيع القاطي، الفنان العاشق للغة الضاد، والذي لا يتوانى عن التغني بموسيقاها اللغوية في كل مقابلة إعلامية، سقط ضحية حملة تنمر تافهة من طرف رواد الويب المغربي، وخاصة فئة المراهقين وأيتام فرنسا أو ضحايا الخردة الدرامية التركية المدبلجة إلى لهجة سورية ركيكة أو لهجة مغربية هجينة ما أنزل الله بها من سلطان. فلماذا أثارت كلمة العرندس سخرية المغاربة؟ بينما يردد مئات الآلاف من الشباب اليافع كلمات الراب التي تعتبر «باناتشي» متحورا يجمع بين مفردات من الدارجة والفرنسية والإنجليزية، تحرض أغلبها على العنف والتحرش والاغتصاب وتعاطي المخدرات. لماذا سخرنا من «الباشق» بينما تراقص المغاربة بحماس، الصيف الماضي، على نغمات «حكايات البرتوش»؟ هل هز العرندس بركة الأزمة الهوياتية الراكدة؟ ولماذا يصر بعض المغاربة على التنكر لمكونهم الثقافي العربي مقابل الاحتفاء بباقي المكونات العرقية والثقافية الوطنية الأصيلة وعلى رأسها الأمازيغية كلغة الأرض والتاريخ؟ وهل الصدام الهوياتي والجدال اللامتناهي حول ماهية التمغرابيت، نقاش مجتمعي وأكاديمي ضروري، أو أنه مجرد إثارة مجانية للنعرات العرقية؟

إن الحديث عن سؤال الهوية والانتماء في المغرب أصبح بمثابة السير في حقول الألغام، إذ تصيب الأطراف المتصارعة حمى هيستيرية كلما تعلق الأمر بلغة المغاربة وأصولهم العرقية ومكوناتهم الثقافية. من الملاحظ أن أقطاب الصراع الهوياتي في بلادنا متشبعون بثقافة الإقصاء والإلغاء ورفض الآخر المختلف.

لماذا يعتبر البعض أن غنى الروافد الثقافية واللغوية والعرقية للمغرب هو بمثابة نقمة على البلاد والعباد؟ منذ متى كانت التعددية خطرا على التجانس الاجتماعي؟ ولصالح من هذا اللغط القائم حول اللغة الرسمية للبلاد؟ من المعلوم أن الاحتكام لعلم الجينات حسم، إلى حد كبير، سؤال العرق المغربي الشمال إفريقي، لكن هذا لا ينفي الحضور التاريخي الراسخ للغة القادمة من الشرق في الوجدان الديني للمغاربة وذاكرتهم السياسية والعسكرية أو أرشيفهم العلمي.

إن المحاولات الساذجة لاقتلاع المملكة المغربية من مكونها الثقافي العربي محض عبث. لقد صدق عبد الله العروي حين قال إن «المغرب جزيرة… قدرنا أننا جزيرة ويجب أن نتصرف كسكان جزيرة»، غير أن هذا الوصف، وإن كان دقيقا، لا يعني بتاتا الانغلاق الحضاري والتعنت الثقافي أو التعصب القبلي..، بل العكس تماما، إن تميز بلادنا بتراث فريد ينهل من منابع الأمازيغية واليهودية والعربية، إلى جانب المكونات الإفريقية والأوروبية، ليس عائقا أمام مجتمع متجانس مصطف خلف وحدة وطنية متماسكة. بل إن التنوع الهوياتي واللغوي للمملكة يرفع سقف التحدي ويدفع بنا إلى المزيد من الانفتاح على العالم. يقول بارنابي روجيرسون، مؤلف كتاب «آخر الصليبيين»: «المغرب مثل اليابان.. من الدول التي تحيا وتستمر».. نعم إنه العرندس يا سادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى