شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

حين عدت لليمن السعيد

1

 

 

د. خالد فتحي

 

“كانت الرحلة تتجه إلى اليمن. ما زرته من قبل أبدا، لكني كنت أشعر كما لو أني كنت عائد إليه”

 

إن رحلتي هاته التي سأحكيها لكم عبر حلقات، يا سادة، ويا سيدات، لجياشة بالأحاسيس، فياضة بالمواقف، ضاجة بالمشاعر والخواطر من كل صنف، ملأى بالمعلومات مما استقيت من هنا وهناك، وحافلة بعديد المناظر والمشاهد.

هي ستكون عن اليمن، ينبوع الحضارة البشرية، ومهد العروبة، الذي يقال الآن عنه إنه يوجد في كبد، ولذلك فإن كثيرين منكم سيستعجلون الحكم على هذه السطور، من قبل أن يقرؤوها. يقولون في أنفسهم ترى ما سيضيفه هذا الذي يدعي، أنه سيقدم لنا بلدا لا تفارق أنباؤه الصحف، قد اصطخبت أرضه بالأحداث، وتلبدت سماؤه بالغيوم، وأصابه من الأوجاع وصروف الزمان ما يعرف وينوء بمعرفته الجميع، غير أن يلوي عنق العبارات، ويتأول من عنده أفراحا وأمجادا من خياله يستدعيها استدعاء، ويستولدها عنوة وكرها من رحم لغة الضاد الخصب الولود، ليصف جمالا وسعادة يمنيان متخيلين. ولكني سأثبت العكس تماما، فبعض التمثل يظلم غالبا الصورة الحقيقية، والخبر ما كان أبدا كالعيان، وخصوصا في هذا الزمن الذي يعرف سيولة في الأخبار.

 

1 اليمن.. شاهد عيان

 

سأحكي لكم بالفعل عن اليمن الحقيقي الذي عاينت وشاهدت. اليمن الذي خبرت في أيام قليلة أهله العاديين البسطاء المترفعين، المتواضعين بشموخ، والتي اختلفت خلالها بين ظهراني طيف من نخبته الطبية كأي واحد منهم، فأحببته وأحببتهم… اليمن الممتحن، الصامد، الكريم، المضياف، الجلد، الصبور، المكابر الذي يداري جراحه متأبطا تاريخه التليد، وممتشقا مجده الساطع البراق، اليمن المتفائل الذي يحدوه أمل مديد في غد أفضل ورغيد، اليمن الأبي الذي يستمسك رغم كيد الزمان المتقلب الشديد المحال، بتسميته المحوزة له منذ آلاف السنين حين تواضع من سبقونا إلى هذا المعمور على أن يسبغوا عليه لقب العربية السعيدة أو اليمن السعيد، لألفيه، أنا المتشوف له، الواقع في هواه عن بعد، المغرم به وبناسه عن سماع، والقادم اليه من المغرب أقصى الوطن العربي ممثلا لبلدي في مهمة تعليمية وعلمية أواخر فبراير 2024، مستغرقا ما زال يعب سعادته على طريقته الخاصة غير عابىء لا بداء ولا بأعداء، ولذلك، سأفرد لكم ثوب السعادة التي يرفل فيها، كما ظهرت لي تفاصيله وألوانه البهية، وكما قاربتها بفلسفتي الخاصة في النظر للأمور… تلك السعادة التي استشففتها في كلام الناس، وأحسستها في لطفهم وودادهم، وشعرتها في جذلهم وسرورهم وإقبالهم على الحياة، ولاقيتها في كل تقلباتهم وأحوالهم، لحتى أنها بالنسبة إلي لحاضرة أيضا في همومهم وتوجساتهم وأحزانهم. فالسعادة في اليمن تختلف في تعريفها ومفهومها عن غيرها ببلدان أخرى. هي عندهم طبع لا تطبع، وفطرة لا تكلف. وقدر لا خيار. لأنه قد جرى في القدم، القدم القديم جدا، حين تقاسمت الشعوب الطبائع، وتوزعت في ما بينها الخصال والصفات، أن قيدت السعادة في سجل البشرية باسم اليمنيين قبل غيرهم من الأمم. لقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف. ولا تنازل لليمنيين عنها ولا تفريط فيها، ولهذا لا مناص لي، قد قررت إذن، وبقناعة ترسخت سريعا عندي، بعدما لمسته من سجاياهم، وبعدما اضطربت وتحورت نظرتي لمعنى السعادة، أن أكتب عن شعب اليمن،… عن حياته الاجتماعية والإنسانية، لا عن الحياة السياسية فيه، فالثانية تتحول وتتبدل، وتصعد وتهبط، بينما الأولى لازمة يمنية آلت أن تخترق العصور، لترشد وتدل على هذا الشعب ذي السمت والوجدان الفريد المختلف، لقد اعتزمت أن أخصص هذه الكلمات، ليمنيين ويمنييات ممن التقيتهم وجالستهم، وآكلتهم في هذه الأيام الخاطفة، فوجدتهم يذللون الصعاب، ويغالبون اليأس، ويتحدون التحدي، مبتسمين للحياة بأجمل ما تكون الابتسامة، مقبلين عليها أشد ما يكون الإقبال، غير متأففين ولا مكترثين أو عابئين بأي شيء ولا بأي عائق، يحيونها كما اتفقت، وكما طابت أو كما لانت لهم، ليطلوا عليكم، ويحرروا لكم وصفتهم لما هو معنى السعادة في مذهبهم وطريقتهم، معهم تأكدت أن السعادة ليست حالة مادية كما نقدر جميعا، فما هي في النهاية إلا حالة ذهنية، ومقام نفسي، ومزاج رائق تنفرد به وتتوارثه بعض الشعوب. واليمنيون أول طلائع هذه الشعوب السعيدة التي قد وضعت لها سلمها الخاص بها لحساب قيمة السعادة.

إلا أني أقر لكم بداية أني أواجه مشكلة، فلو كنتم أنتم مكاني، فإنكم لن تدروا في ما يخيل لي، كيف تبدأ قصصك عن اليمن، وخصوصا لما يكتب لك أن تزوره على حين غرة منك، ولما لا يفوق الأسبوع لا غير، ومن غير المتوقع أن لا يقصر الأسبوع الواحد عن سرد تاريخ مجيد كتاريخ اليمن، فبالأحرى أن يجس حاضرا قلقا كحاضره، ويتكهن مستقبلا كمستقبله حمالا لسيناريوهات كثيرة تتراوح بين المصير ونقيضه؟ فهل أحكي إذن عن جمال اليمن، لأنه أسهل وأبين ولا أحد يختلف في شأنه؟ أم عن بساطته، وطيب هوائه وعذوبة مائه، وصفاء نهاره، وزرقة سمائه، وروعة ليله، ولين قيظه وحره؟ أم أثني على سكانه الطيبين، الحييين، وعفويتهم، وتلقائيتهم، وحبهم لكل ما هو عربي أو لكل ما يمت للعروبة بصلة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى