حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

راس العام

في المغرب لا يحتاج الإنسان إلى تقويم ديني معقّد ليفهم معنى الزمن، يكفيه أن يفتح باب المطبخ. فهناك، بين رائحة الزبدة واللوز، وبين كَصعة الكسكس و«سطل» الشباكية، تُدار مفاوضات كبرى بين السماء والأرض، بين المقدّس واليومي وبين الإيمان والفرح. نحن شعب لا يكتفي بالإيمان القلبي، بل يصرّ على طهيه، تزيينه وتقديمه ساخنًا مع كأس شاي بالنعناع. وهكذا تحوّلت الأعياد والمناسبات الدينية، بمختلف مرجعياتها، إلى لحظات جامعة تتجاوز العقيدة لتلامس معنى أعمق: معنى الاحتفال بالحياة نفسها.

مقالات ذات صلة

نحتفل برمضان كما لو أنه ضيف عزيز يأتي مرة في السنة، ننظف له البيوت، نلمّع القلوب ونرصّ الطاولات بما لذّ وطاب. الصيام ليس فقط امتناعًا عن الطعام، بل تمرين جماعي على الصبر، يليه إفطار جماعي على الضحك والحريرة والتمر. ثم يأتي العيد فنرتدي الجديد، نزور الكبير ونوزّع الحلوى كما لو أننا نوزّع اعتذارًا جماعيًا عن تعب السنة كلها. العيد هنا ليس نهاية عبادة، بل بداية مصالحة مؤقتة مع الحياة، نؤجّل بعدها الخصومات إلى إشعار آخر.

لكن المشهد لا يتوقف عند هذا الحد. فبلا عقد ولا حرج، نجد أنفسنا نحتفل بالكريسماس ورأس السنة، ليس بوصفهما طقسين دينيين، بل كموسم إضافي للفرح. الأضواء تملأ المراكز التجارية، المقاهي تغيّر موسيقاها، والموائد تُعدّ على شرف الدجاج المحمّر الذي صار، دون قرار رسمي، الطبق الوطني لليلة رأس السنة. لا أحد يسأل عن اللاهوت، الجميع منشغل بالسؤال الأهم: هل «الطارطا» بالشوكولاتة أم بالفواكه؟ هكذا، وبسلاسة مغربية خالصة، يتحوّل العيد إلى ذريعة اجتماعية للّقاء، لا أكثر ولا أقل.

ومع إخوتنا المغاربة اليهود، نحتفل بالهيلولة وحاكوزة، لا من باب المجاملة، بل من باب الذاكرة المشتركة. السفنج يُقلى احتفالًا بالانقلاب الشتوي، الزيت يسيل والسكّر يرشّ بسخاء، وكأننا نعلن انتصار الضوء على العتمة، ولو مؤقتًا. هنا لا تحتاج التعايشية إلى خطابات رسمية ولا إلى لجان مشتركة، يكفي أن تتقاسم قطعة سفنج ساخنة لتفهم أن الاختلاف يمكن أن يكون لذيذًا.

هذه القدرة العجيبة على الاحتفال بكل شيء، ومع الجميع، ليست سذاجة ولا ضياع هوية كما يحبّ البعض أن يروّج. إنها فلسفة عميقة، وإن جاءت في قالب بسيط. فالإنسان المغربي، الذي راكم تاريخًا من القلق، الفقر، القحط والاستعمار، فهم مبكرًا أن الحياة أقصر من أن تُعاش في العبوس الدائم. فاخترع الاحتفال كآلية دفاع نفسي، وكحكمة شعبية تقول: إن لم نستطع تغيير العالم، فلنغيّر مزاجنا تجاهه على الأقل.

ثقافة الاحتفال، بهذا المعنى، ليست ترفًا اجتماعيًا، بل شكلًا من أشكال المقاومة الناعمة. مقاومة الكراهية بالتعايش، ومقاومة الخوف بالضحك، ومقاومة الفناء بطقس يتكرّر كل سنة ليذكّرنا بأننا ما زلنا هنا. حين نحتفل بأعياد غيرنا، لا نفقد إيماننا، بل نوسّعه، نجعله أقل هشاشة وأكثر ثقة بنفسه. الإيمان الواثق لا يخاف من شمعة، ولا من شجرة ميلاد ولا من وصفة سفنج.

في العمق، لا يحتفل المغربي بالأعياد لأنه متسامح بالضرورة، بل لأنه براغماتي في علاقته مع الوجود. فهو يدرك أن الحياة أقسى من أن تُواجه بالصرامة وحدها. لذلك يختار الفرح كخيار أخلاقي والاحتفال كحل عملي. بين مناسبة وأخرى، يعيد ترتيب علاقته بالزمن، يعلّق الخوف مؤقتًا ويمنح نفسه حق الاستراحة من القلق الوجودي. هكذا تصبح الطقوس، مهما اختلفت مرجعياتها، لغة مشتركة تُخفف ثقل الأيام، وتذكّر الإنسان بأن المعنى لا يُبحث عنه فقط في السماء، بل يُصنع أيضًا حول مائدة بسيطة. تحمي المجتمع من الانغلاق، وتمنحه قدرة نادرة على تحويل الاختلاف إلى فرصة عيش مشتركة دافئة ومستدامة، بعيدًا عن الخوف والكراهية اليومية.

ربما لهذا السبب يبدو المغربي، في عمقه، متماهيا مع الحالة الإنسانية بالفطرة. ليس لأنه قرأ كتب الفلسفة، بل لأنه مارسها دون أن يسمّيها. فالاحتفال، في جوهره، اعتراف بالآخر، وبحقه في الفرح، حتى لو اختلفت السماء التي ينظر إليها. وفي عالم يزداد قسوة وانقسامًا، تبدو هذه الفلسفة البسيطة أكثر حكمة من كل الشعارات الصاخبة. هكذا، بين عيد وعيد، نؤجّل نهاية العالم، ونمنح أنفسنا سببًا إضافيًا لنحب الحياة، رغم كل شيء. وسنة سعيدة غير بالقاعدة.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى