
بيار عقيقي
قارب عديد من المؤرخين ووسائل الإعلام في الفترة الأخيرة، بين الأزمة الأوكرانية الحالية وأزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، على اعتبار أن قضية أوكرانيا ستنتهي بـ«هاتف أحمر» جديد بين الرئيسين، الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، أشبه بما حصل مع سلفيهما جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف. وفي رأي هؤلاء، ما يحصل في الشرق الأوروبي لن ينتهي بصدام عسكري، من دون إقناع المراقبين بمدى فعالية أي تسوية، بمعزل عن تلبية طلبات بوتين بتراجع حلف شمال الأطلسي، وبمعزل عن رفض رغبة أوكرانيا بالانضمام إلى الحلف. في الأصل، لا يمكن لأي من الطرفين التراجع. المعادلة بسيطة: إن تقهقر «الأطلسي»، ستبدأ الشكوك تغزو عقول صناع القرار في الدول المنضمة إليه، خصوصا تلك التي على تماس جغرافي مع روسيا، مثل دول البلطيق الثلاث: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. كما أن دور الحلف سيشهد تراجعا عالميا.
في المقابل، لن يقبل بوتين بالتراجع للأسباب عينها. إن تراجع في أوكرانيا، فإن جورجيا، البلد القوقازي، سيتحفز للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وقد يصل الدور إلى أذربيجان، وأرمينيا التي باشرت تحولات جوهرية في علاقتها مع تركيا، ثاني أقوى جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة. وقد يطاول تمدد «الأطلسي» الوسط الآسيوي، خصوصا الدول المطلة على بحر قزوين، مثل تركمانستان وكازاخستان.
حتى الآن، لا تبدو التسوية عنصرا مرغوبا، لا في الكرملين ولا في البيت الأبيض.
من الطبيعي أن أوكرانيا راقبت ما حصل في إقليم ناغورنو كاراباخ، حين سيطرت عليه أذربيجان بعد حرب قاسية مع أرمينيا في خريف عام 2020. ومن الطبيعي أن كييف تعتقد أن تدابير باكو العسكرية، المدعومة من أنقرة، تحديدا مسيرات «بيرقدار»، قد تكون نموذجا يُحتذى في «استعادة» دونباس. المسيرات التركية باتت أساسا في عنابر الجيش الأوكراني.
ما يجري هو جزء من لعبة شطرنج كبيرة، شبيهة بأبرز مواجهة في التاريخ، بين الأمريكي بوبي فيشر والسوفياتي بوريس سباسكي، التي دارت رحاها في 1972. كل الظروف وإفرازات الحرب الباردة وجدار برلين وأحداث الستينيات والتقدم الإعلامي والثورات الشبابية التي هزت العالم الغربي كانت متاحة حينها. وعلى مدار 51 يوما، بين 11 يوليوز و31 غشت 1972، نجح فيشر في سحق منافسه السوفياتي، لتتحول مجرد لعبة فردية بين شخصين إلى معيار لتقدم القطبين السوفياتي والأمريكي وتراجعهما. الآن يظهر بوتين كما لاعب شطرنج، على الرغم من أنها ليست من هواياته المتعددة مثل صيد السمك، لكنه يؤمن بأن سلوكه الممتزج بين القومية الروسية و«الحقوق» السوفياتية و«الزحف» الغربي إلى أبواب موسكو، فضلا عن البعد الجغرافي للصراع، سيجعله في موقع متقدم أمام الأمريكيين. أما بايدن، المحافظ، على الرغم من ديمقراطيته، فيهوى لعبة البيسبول، وكان منقذا لفريق جامعته في الستينيات، من الخسائر في مباريات عدة. وهو ما يظهر عليه في سلوكه كشخص مباشر، وليس غامضا، عكس بوتين.
بوتين القادر على التمتع بميزة الصبر، كمن ينتظر أن تعلق سمكة في إحدى بحيرات سيبيريا بصنارته، وبايدن الذي «يهرول» سريعا إلى ثلاث من قواعد البيسبول، قبل عودته إلى قاعدته الرئيسية بعد ضربه الكرة بمضربه، يلعبان الشطرنج في أول تحد مباشر بينهما. لن تنتهي هذه اللعبة بتسوية مرضية، بل على أحدهما أن يفوز، لأنها طبيعة اللعبة.





