شوف تشوف

الرأي

عرب أطاعوا وباعوا.. وفرس وروس اشتروا! (1/2)

انطلاق القاذفات الاستراتيجية الروسية من قاعدة همذان العسكرية الإيرانية، لقصف أهداف في سوريا، ليس قراراً سياسياً في المقام الأوّل، كما سارت بعض التحليلات الغربية؛ يستهدف إرسال إشارات (أوضح مما تبدّى حتى الآن؟)، حول طبيعة التنسيق العسكري الروسي ـ الإيراني، في الملف السوري على الأقل.
صحيح، إلى هذا، أنّ الرمزية السياسية عالية، كما أنها غير مسبوقة أيضاً، في هذا الإجراء العسكري؛ وأنّ تشغيل رموز من هذا الطراز يخدم موسكو وطهران على قدم المساواة، في الساحات الجيو ـ سياسية التي تتهدد فيها، أو تتوطد، مصالح البلدين. العاصمة الأولى تقول، أو بالأحرى تشدد على، ما اعتادت تسويقه منذ (سبتمبر) الماضي، حين كرّست تدخلها العسكري المباشر في سوريا؛ من أنها قوة كونية عظمى جديرة بمجابهة أمريكا والأطلسي خارج حدود جورجيا وأوكرانيا، ثمّ استطراداً خارج حروب أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية.
والعاصمة الثانية، طهران، تذكّر بأنها قوّة إقليمية عظمى، مستعدة للاتجار بالمصالح الكونية الجيو ـ سياسية مع قوى كونية أخرى غير أمريكا؛ وأنّ الاتفاق النووي الذي وقعته مع «المجتمع الدولي» ليس منتهى تلك التجارة، أو حتى ذروتها القصوى.
من الصحيح، في المقابل، بل لعله الأصحّ في الواقع، أنّ الغاية العسكرية الصرفة هي عماد ذلك الإجراء، وأنّ حال النظام السوري القتالية الميدانية لا تسرّ خاطر رعاته ومسانديه وحلفائه، في موسكو أسوة بطهران وبيروت/ الضاحية الجنوبية.
ما جرى عسكرياً في حلب مؤخراً، وما يجري ببطء أكثر وبضجيج إعلامي أقلّ في ريف دمشق، يستوجب نقلة نوعية في إسناد النظام على الأرض؛ حيث يُتاح لقاذفة الـ Tu-22M الروسية الاستراتيجية أن تلقي 20 طناً مترياً من القنابل أو الصواريخ، ولا بأس أن تحمل أيضاً رسائل سياسية متعددة العناوين: إلى واشنطن، والحلف الأطلسي، وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي، وسوق النفط، وسوق السلاح… هذا بافتراض أنّ مقاتلات الـ Su-34 الروسية، التي أخذت الآن تنطلق كذلك من قاعدة همذان، لا تحمل الرسائل ذاتها؛ مضاعفة، إذا جاز القول، لأنّ هذا الصنف من الطيران الحربي الروسي يعمل لتوّه، من مطار حميميم في اللاذقية. ولا بأس، في المقابل، من جرعة علاج بالصدمة، تصنعها حقيقة مرور القاذفات الروسية من إيران إلى سوريا عبر الأجواء العراقية (عراق حيدر العبادي، بعد عراق نوري المالكي، للإيضاح!)؛ الأمر الذي يعيد التأكيد على إجراء عراقي سابق (عبور الطائرات الإيرانية التي تشحن العتاد والمقاتلين عبر الأجواء ذاتها نحو سوريا): وأمّا العلاج فهو تعويد العرب على متغيرات التحالف بين العرب، مع غير العرب، ضد العرب أنفسهم (صيغة «فرس وروس» لمن يشاء!)؛ وأمّا الصدمة فهي، بين مقاصد أخرى، فهي تسخيف بعض أساطير العرب، عن التضامن الأخوي العروبي!
طريف، أولاً، متابعة التراشق اللفظي بين واشنطن وموسكو، حول استخدام قاعدة همذان في انطلاق القاذفات الروسية نحو سوريا؛ إذْ بدأت الجولة من تصريح مارك تونر، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، من أن الإجراء الروسي هذا قد (نعم: قد!) يكون انتهاكاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2231، القاضي بحظر تزويد أو بيع أو نقل الطيران الحربي إلى إيران؛ وأنّ القاذفات الروسية، التي تقول موسكو إنها سوف تستهدف «الدولة الإسلامية، سوف «تستهدف عملياً قوات المعارضة السورية المعتدلة». ردّ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كان كالعادة دبلوماسياً وساخراً في آن: «هذه الطائرات تستخدمها قوات سلاح الجو الروسية، بموافقة إيران، ضمن عملية محاربة الإرهاب في سوريا، بناء على طلب الحكومة السورية الشرعية». أقلّ دبلوماسية، كما يُنتظر منه، كان ردّ إيغور كوناشينكوف، رئيس الدائرة الإعلامية في وزارة الدفاع الروسية: ليس من عادتنا أن نلقّن مسؤولي الخارجية الأمريكية دروساً في حُسن قراءة القانون الدولي!
والحال أنّ السذّج، فضلاً عن رهط «الممانعين» مكمّمي العقول عن سابق قصد، هم وحدهم الذين يمكن أن يعتقدوا بأنّ الصفقة الروسية ـ الإيرانية، في استخدام قاعدة همذان؛ قد تمّت دون علم، ثمّ موافقة وترخيص، البيت الأبيض والبنتاغون؛ أو دون علم، ثمّ موافقة وترخيص، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شخصياً، صديق بوتين وحليفه، والحائز من سيّد الكرملين على هدية ثمينة لا ككل هدايا العباد: دبابة سورية! في تفاصيل مثل هذه، تعبر النطاق الجيو ـ سياسي إلى ذاك العسكري الستراتيجي، المحلي والإقليمي والدولي؛ لا مجال للعبث أو المناورة أو المغافلة، لأنّ العواقب سوف تكون وخيمة لا ريب، ولأنها قد تنقلب على أصحاب الشأن قبل سواهم. وفي كل حال، ليس استنتاجاً خارقاً للعادة ذاك الذي يقول إنّ المصلحة مشتركة، بين واشنطن وموسكو وطهران وتل أبيب؛ ليس في قصف «داعش» أو «جبهة فتح الشام» أو «أحرار الشام»، فحسب؛ بل كذلك فصائل الجيش الحر «المعتدلة»، أينما وحيثما توجّب الحفاظ على المقدار المطلوب من التوازن العسكري بين المعارضة والنظام.
وبصدد تقاطع (بمعنى تطابق وتناغم…) السياسات الإيرانية والإسرائيلية حول الملفّ السوري، ليست جديدة تلك المواقف التي تصدر عن كتّاب ومعلّقين وساسة يهود، وتعلن ـ على نحو صريح تارة، ومبطّن خافٍ طوراً ـ مناصرة نظام بشار الأسد، ومعاداة الانتفاضة الشعبية؛ خشية على دولة إسرائيل إذا سقط النظام الذي كفل صمت السلاح في هضاب وبطاح الجولان طيلة 46 سنة، وقدّم خدمات ثمينة لأمن إسرائيل في لبنان وفلسطين والأردن، ولأمن راعيتها الكبرى الولايات المتحدة، سيما في تحالف «حفر الباطن». للمرء أن يستذكر مواقف ألكسندر آدلر، المؤرّخ والصحافي الفرنسي اليهودي المعروف، والكاتب في صحيفة الـ«فيغارو»، والمساهم في مطبوعات ومواقع أخرى يمينية غالباً، محافظة، وشديدة الانحياز لإسرائيل.
بصدد العلاقات الإسرائيلية ـ الإيرانية، والبرنامج النووي الإيراني، يقول آدلر: «لا أعتقد أنّ الإيرانيين أرادوا في أي يوم امتلاك القنبلة النووية لتهديدنا، نحن اليهود؛ وأنّ الهدف في الحقيقة كان بلوغ التفوّق على العالم العربي، والعالم العربي السنّي، في موازاة تجربة الباكستان النووية التي تمّ تمويلها بالكامل من المملكة العربية السعودية ودول الخليج». ثمّ يربط هذا التقدير بواقع انتفاضات العرب، ومصر تحديداً، فيقول: «إذا سألتني عن جوهر موقفي، أرى أنّ الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضدّ العداء للسامية، فهو إيران (…) واليوم أعتقد أنّ العدو الرئيسي هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة، العرب، القائم على خليط من الناصرية وعقيدة الإخوان المسلمين، والذين ـ انطلاقاً من مصر، التي كانت على الدوام البلد الجدّي الوحيد في المنطقة ـ يوشك على ترتيب محاصرة إسرائيل، والتحضير للهجوم عليها بين يوم وآخر».
وليست نادرة، بل لعلها الشائعة أكثر، مواقف أمثال آدلر في إسرائيل وأمريكا؛ وكذلك أمثاله في روسيا، مختلطة بنزوعات الفخار القومي والحنين الإمبراطوري القيصري؛ وأمثاله في إيران، ممّن أتقنوا المزج، النفعي، بين المشروع الخميني/ الخامنئي في «تصدير الثورة»، ومشروع التوسع الإقليمي الذي يستلهم جذوراً فارسية صرفة. ومن سماءات إيران، إلى سماءات سوريا، تحت سمع وبصر ـ وبالطبع: ترخيص ـ أمريكا وإسرائيل؛ ثمة هذه الصفقة التي تدفع إلى استذكار محمود درويش: «سقط القناعُ/ عربٌ أطاعوا رومهم/ عربٌ وباعوا روحهم»؛ فكان مآلاً طبيعياً أن يشتري الروس، بعد أن اشترى الفرس، سقط متاع أنظمة الفساد والاستبداد والمزارع العائلية، وتُبّع المذاهب والطوائف والميليشيات، ومجرمي الحرب وقتلة الأطفال!

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى