حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

فلسفة الهجرة

بقلم: خالص جلبي

اجتمعت بصديقي أبو محمد وهو يعمل في إصلاح الحدائق، فأخبرني عن عزمه على مغادرة الوطن إلى أمريكا، بعد أن انتظر التأشيرة ثماني سنوات. أحزنني بعض الشيء وصوله إلى هذا القرار، ولكن هل هي مشكلة هذا الرجل فقط، أم هي أزمة وطن واختناق ثقافة، بعد أن تحول الوطن إلى طائرة مخطوفة والمواطن إلى رهينة والمستقبل إلى نفق مسدود؟ المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة، بل ثلاث:
(1) الأولى: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء، فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى. ولعلها ستبقى ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح. ويقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء، حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ)، الدماغ الفيزيائي صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم، الهجرة إلى أمريكا كان جوابه: إنه قرار يجب أن يحسم في عمر مبكر. فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين، تصبح تلك البيئة له أكثر الأوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها. كان جوابه: «سأرجع إلى ألمانيا، حتى إذا انهدمت المدن الألمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة». وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بلانك في فروع لا نهاية لها من العلوم.
(2) والمشكلة الثانية أن من هاجر واحتك بالحضارات الأخرى، يصل إلى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده، فهو نفسيا في الأرض التي لا اسم لها. ومن أجمل ما قرأت نقلا عن مهاجر ألماني ما معناه، أن الذي يرى وطنه جميلا فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح. يقصد بهذا إن وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والإعارة، وأن البشر من التراب وإليه نعود. وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة، التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم.
(3) ويعتبر قرار الهجرة ثالثا من أصعب وأخطر القرارات في حياة الإنسان، ولعله يكون طريق باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء أنهم يبقون غرباء لفترة طويلة، وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثلاثة أمور: أنه قرار لا يتعلق به وحده، بل ذريته من بعده. ثانيا أنه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده. وأرجع إلى صديقي أبو محمد قلت له ما دافعك إلى الهجرة. قال لي: أمورنا تمشي إلى الخلف وحياتي انتهت، وأنا أريد مستقبلا لأولادي.
الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي فكما أوحى الله إلى أنبيائه روحا من أمره، كذلك أوحى إلى (النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتا، وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه. كل بطريقته الخاصة. ولا يهاجر الإنسان فقط، بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات. ويهاجر الرجل والمرأة إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة، فهذا قانون وجودي. الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر بكندا، ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا لتصل إلى أمريكا الجنوبية، فتتبدل خلقا من بعد خلق. ولكن هجرة الإنسان غير هجرة السمك والطيور، فهي حركة ثقافية.
وحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانط)، فقد كانت الهجرات تأريخا للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الإنسانية، وبذلك زحف الإنسان في الأرض من شرق إفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدت على مدار 200 ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الإنسان في الأرض. ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل 12 ألف سنة، وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار.
والسؤال ما الذي يدفع الإنسان إلى الهجرة فيترك مراتع الطفولة وأحب الأماكن إلى قلبه، كما وصف ذلك الرسول صلى الله وعليه وسلم، وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟ إن شعور الفراق الأبدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق، بعد الفتح الإسلامي، ويقول: «وداعا يا دمشق .. وداعا لا لقاء بعده». وهي الجملة نفسها التي يكررها اليوم فارو اللجوء السياسي من بلاد الشام إلى الأرجنتين والدومينيكان والسويد. قد يحمل نعش أحدهم إلى الوطن، كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه. ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال. فهو وطن الأحياء الأموات، والموتى فيه يدفنون.
لماذا قال إبراهيم عليه السلام هذه الجملة: إني مهاجر إلى ربي؟
يعتبر إبراهيم عليه السلام المهاجر الأكبر، فهو الذي ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليؤوي إلى أرض غير ذات زرع عند بيته المحرم. فالصحاري مع الحرية أطيب من الاستبداد مع الجنان. وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل، ربنا تقبل منا. وهناك دعا أن لا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان. كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق الذي زعم أنه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسلاما عليه، وبعد أن واجه فرعون مصر الذي طمع في زوجته الجميلة سارة. ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في أرض غير ذات زرع، لأن أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحرية. ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء، وفي جو الاستبداد تقتل الحياة قتلا. وجرت العادة أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج؛ فمع طوفان نوح تطهرت الأرض فلم يبق من الكافرين ديارا، ومع هجرة كولومبوس تقرر مصير الغرب، وانقلبت محاور التاريخ، وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي.
سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى