شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمع

قصة ولادة امرأة

 

مقالات ذات صلة

بقلم: خالص جلبي

 

كنت طفلا صغيرا عندما روت لي والدتي هذه القصة، وكنت أشعر بالقشعريرة تتخلل عظامي مثل أفلام الرعب، وأنا أصغي لكلماتها وأتأمل وجهها المشحون بالتعبيرات. وما زالت القصة مغروسة في ذاكرتي حتى اليوم، وأعترف بأن والدتي كانت بارعة في رواية التفصيلات. تعود القصة إلى عائلة ناصر حدة المسيحية، كانت الأم صغيرة السن، جميلة الصورة، وحاملا، حتى كان يوم الوضع الذي هو يوم الفصل، فصل الجنين عن أمه، وفصل المشيمة عن الرحم، وفصل الحياة عن الموت عند الوالدة. إن أطباء النسائية يكررون على مسامع الناس وطلاب الطب، أن ولادة المرأة يجب اعتبارها عملية جراحية ويجب الاستعداد لها، ويجب أن لا تلد أي امرأة في أي بيت في العالم، بل في مشفى وتحت إشراف طبيب، وفي جو استعداد للعمل الجراحي. والسبب أن عملية الوضع محفوفة بالمخاطر، فقد يلد الطفل وقد يتعضل. قد ينزل برأسه وقد يخطر في باله فينزل بمقعده، فلا يخرج إلا بألعاب بهلوانية. قد يعيش وقد يموت. قد تكون المشيمة في موضعها، وقد تكون غيرت موقعها فاستقرت في مكان غير متوقع فجلست على عنق الرحم بدلا من القاع على رحابة سقف الرحم، وهو ما يعرف بارتكاز المشيمة المعيب LACENTA PREVIA، فلا تدع الوليد أن يخرج ولا تنخلع بشكل عادي وتتعرض الأم لنزف قاتل، وكانت وفيات الأمهات مع الحمل أو بعده بحمى النفاس أمرا عاديا في الأيام الخوالي. ويروي لنا التاريخ موت ممتاز محل، زوجة الملك الهندي شاجاهان، في الولادة، فطاش لبه وأمر ببناء القصر المعروف تاج محل، رمزا ووفاء للحب وجلس في قصره يحدق في قصر الحبيبة، حتى مات كمدا وقهرا. وفي القصة التي روتها لي والدتي عن تلك الحامل الشابة، قالت: لقد تعرضت الأم لنزف مروع بعد الوضع، وكان هذا قبل نصف قرن. وكنت في بلدة صغيرة قلت فيها الإمكانيات الطبية، والطبيب الذي حضر لمعالجة المريضة لم يكن اختصاصيا في الأمراض النسائية. قالت والدتي لقد حاول أن يحشو المجرى التناسلي بالقطن، كي يوقف النزف بدون نتيجة. وعلى رواية والدتي فقد أمر زوجها بإحضار ما استطاع من الطماطم من السوق، وكان الوقت ليلا، فهرع طائش الصواب إلى سوق الخضر والمرأة تموت.

 ولم أفهم هذه النقطة بالذات، وخطر في بالي يومها أنها سوائل حمراء من عصير البندورة، قد تنفع مثل الدم في تعويض ما خسرته الحامل النازفة من الدم. قالت والدتي: لقد هرع الزوج الملتاع كالمجنون في نصف الليل يبحث عن الطماطم. وما زلت أتذكر والدتي وحزنها عليها وهي تتحدث عن سفرة ماريامانة، نسبة لمريم عليها السلام، وكانت عادة في مناطقنا يتحفون بها من تضع بسفرة عامرة من شهي الطعام. ولكن النتيجة كانت أن الأم الشابة ماتت في تلك الليلة، فلم تر خيوط أشعة الصباح وسلمت الأمانة مع السحر موتا بالنزف.

أذكر هذه القصة، لأن طبيبا روى لي حادثة مماثلة، حيث دخل قاعة عمليات كأنها حوض سباحة من دم المريضة. كانت المريضة تسبح في بركة من دمها، ولكن التعاون الطبي وتوفر الاختصاصات وخدمات بنك الدم وليس عصير الطماطم جنب المريضة سوء الختام، خاصة إن كانت أما لدرزن من الأطفال. كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا.

وأنا شخصيا طُلبت أكثر من مرة لإنقاذ نساء تعرضن للنزف، وكان علي ربط الشرايين المغذية للرحم حتى ينقطع النزف وتنجو المريضة، وما زلت أذكر تلك الحالة في مشفى البكيرية في منطقة القصيم بالسعودية، وزوجتي رحمها الله تساعدني في حمل الأدوات الجراحية المناسبة للتداخل الجراحي وأنقذت المريضة. فكتب زوجها «القضيبي» كتاب شكر للفريق.

وفي مشفى عسير حصل ما هو أشد هولا، حين طلبت أيضا في منتصف الليل لحالة مشابهة أعيت جراحي النسائية، فتدخلت وقمت بعملية أكثر صعوبة وتحديا، لأن أطباء النسائية دخلوا ليصلحوا فأفسدوا حين أصابوا الأوردة في المنطقة بعطب، وكان دوري إصلاح خطئهم قبل ربط شرايين المنطقة، ولم تكن سهلة قط ولكم ربي أعانني، وقد سجلت الواقعة في قناتي «رحلتي في عالم الطب والفكر». وبكل أسف حين أذكر الحالة، أتذكر زميلا سيئ الخلق حاول أن يحرك قضية شكوى ضد الفريق؛ لأن زميلنا الدكتور عثمان غندور نسي شاشا طبيا في المنطقة، وهو أمر يحصل في زوبعة جراحية من هذا النوع، فتمت معاقبته بخصم عدة أيام من راتبه. والرجل الدكتور عثمان غندور أصبح في دار القرار وكتب مذكراته رحمه الله رحمة واسعة كان من خيرة الزملاء الذين تعرفنا عليهم في مسيرتي الطبية، في الوقت نفسه الذي نذكر زملاء لنا آخرين لا نتمنى أن نراهم في دنيا وآخرة، في محفل أو حفلة أو مطار.

جاء في الحديث: مستريح ومستراح منه.. قالوا: يا رسول الله من المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب.  

 

نافذة:

أنا شخصيا طُلبت أكثر من مرة لإنقاذ نساء تعرضن للنزف وكان علي ربط الشرايين المغذية للرحم حتى ينقطع النزف وتنجو المريضة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى