شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

لغز نشأة الحياة

بقلم: خالص جلبي

 

تغنى الشعراء بكوكب الزهرة، وذهب الأثينيون إلى اعتباره مكان آلهة الجمال (فينوس VENUS)، في حين تم التشاؤم من كوكب المريخ فأعطاه اليونانيون اسم إله الحرب (مارس MARS)، واعُتبر ظهوره في الأفق علامة نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، في الموت بالطاعون والطعن والحرب والكوارث والمجاعات، بل ذهب البابليون الى تسميته باسم شنيع (نرغال NERGAL)، إله الموت والبؤس واليأس[1]. واتفق الجميع على أن أرضنا مركز العالم، فكل الكواكب تتهادى حولها، في أطر بلورية مستديرة في أتم استدارة، حرصا على الكمال والذوق الرفيع بما فيها كوكب الشمس، فالكل يدور حول أرضنا خاشعا واجما متأملا كوكبنا البديع. والذي ثبت أن أرضنا ليست مركز الكون، وليست الزهرة مكانا للحب والوصال، وليس المريخ ذلك الكوكب الأحمر منتفخ الأوداج من الغضب واللعنة وإعلان الحرب، كما نعرف اليوم أن كوكب الزهرة أشبه بجهنمٍ من النار تتلظى، والمريخ صقيع قاتل، والأرض ليست أكثر من ذرة غبار في الكون الممتد اللانهائي، وفقرة محلية في أخبار الكون.

 

كوكب الحب (فينوس) ليس أكثر من كارثة!

نحن نعرف اليوم أن الزهرة تغلي كالمرجل بدرجة حرارة 480 درجة مئوية  أو 900 فهرنهايت، وضغطه يرتفع إلى 90 ضغطا جويا، يشبه من يسبح في عمق المحيط تحت كيلومتر من الماء [2]، تغتسل سماؤه في دورة جهنمية من الحمض الكبريتي الساخن الذي يشوي الجلود وساءت مرتفقا، وتعصف بأرضه رياح عاتية بسرعة 220 ميلا في الساعة، ويعبق جوه بغاز الفحم بدرجة تركيز أكثر من المريخ بنسبة 96 في المائة (المريخ 95 في المائة والأرض 0.03 في المائة)، وترتفع غيومه المخيفة حتى 60 كيلومترا في كبد السماء؛ فلا يناسبه سوى الغواصات المبردة، ويدور كوكبه كالمجنون زيادة في تأكيد المحبة بشكل عكسي من الشمال إلى اليمين، خلافا لبقية كواكب المجموعة الشمسية، فالشمس هناك تذكر بعلامات وأشراط يوم القيامة؛ فهي تشرق من المغرب وتغرب في المشرق، في نهار يصل إلى 118 يوما من أيام الأرض، في سنة تصل إلى 243 يوما أرضيا، وهكذا فاليوم والسنة يقتربان من بعضهما (236 يوما لليوم و243 يوما للسنة)، ويذكرنا بعطارد الذي يدور حول الشمس في 88 يوما ويومه 59 يوما.

 

كوكب المريخ جثة في الصقيع

 ونعرف اليوم أن المريخ صحراء جليدية كالجثة الميتة سماؤها خانقة بغاز الكربون، وضغطها خفيف أقل من الأرض بمائة مرة، يكفي الوقوف فيها لحظة يتيمة إلى انفجار العروق وانطباخ الدم فيها، تعصف فيها الرياح الرملية وتزمجر في جو لا ينطق بالحياة.

أما كوكبنا البديع فهو يعيش في حافة مجرة قطرها مائة ألف سنة ضوئية، تضم مائة مليار نجم من نوع شمسنا، في كون يمتد ويتمطط بدون توقف مثل القربة التي تنفخ باستمرار، على مدار الساعة أطراف الليل وآناء النهار، في سباحة إلى مستقر لها. في مائة مليار مجرة من نوع مجرتنا، أقرب مجرة إليها من نوع المرأة المسلسلة (الأندروميدا) يبلغ قطرها 150 ألف سنة ضوئية (ولا ندري لماذا رشحت السلاسل للمرأة عبر هذه المجرة، أو تعبير درب التبانة لمجرتنا؟ واسمها مشهور بطرق الحليب، وكأنه الحليب أو اللبن المتناثر على صفحة السماء).

هذه الحقيقة البسيطة التي يدرسها الطلاب اليوم كبديهية وحقيقة علمية، دفع فيها كوبرنيكوس صمته المطبق مدى الحياة، ودفع فيها جيوردانو برونو حياته حرقا بالنار حيا، يشوى على نار هادئة مثل الفروج جالساً على خازوق [3].

وهكذا والشيء الأكيد أن الزهرة كارثة كونية وجهنم تتلظى، والمريخ جهنم باردة، والأرض الكوكب الأزرق يحوي في رحمه الحياة التي تتدفق وتتنوع وتتغير وتتكاثر وتنمو ويزيد في الخلق ما يشاء، ولكن صدمة (حجر المريخ STONE OF MARS ) أعلنت عن احتمالات حياة نشأت في بداية فتوة المريخ قبل 3.8 مليارات سنة، مما يعيد الحسابات في حل لغز نشأة الحياة في الكون العجيب الذي ننتمي إليه ونعيش فيه ولا نعرفه.

والآن كيف نشأت الحياة على وجه الأرض؟ فهذا هو السؤال الأول. وهل هناك حياة في أماكن أخرى، أم يشكل ظهور الحياة على الأرض تفردا خاصا؟

 

تجربة ستانلي ميلر المثيرة في الخمسينيات

حتى الخمسينيات من القرن العشرين اعتبرت المواد العضوية شيئا لا يمكن تركيبه، فضلا عن تكونه تلقائيا، حتى قام طالب جامعي هو «ستانلي ميلر STANLY MILLER» بتجربة هزت الأوساط العلمية، وكانت التجربة التي قام بها محاولة لتصور سيناريو محتمل لبداية الحياة على ظهر الأرض، قبل 4.6 مليارات سنة، عندما ولدت الأرض وتشكلت.

قام الشاب «ميلر» بصناعة مجموعة معقدة من الأنابية والدوارق والكرات الزجاجية، حيث سلط غاز الميتان والهيدروجين والأمونياك على الماء، في جو تعزف فيه الكهرباء أنغام الصواعق من إلكترود كهربائي، مقلدة جو الأرض الحموم بالنيازك المخترقة والرعد الحارق، في ما يشبه المرقة الأصلية (ORIGINAL SOUP) التي انطلقت منها الحياة، وانتظر بلهفة وحذر ليرى ماذا يحدث. كانت النتيجة مفاجأة صاعقة، ففي ليلة من نونبر عام 1952 م بدأ السائل الرائق يتغير لونه إلى الوردي، الذي ما لبث أن انقلب إلى لون أحمر فاقع يسر الناظرين، وبفحصه تبين تخمته بالأحماض الأمينية، التي تعتبر أساس البروتينات، أي وحدات البناء الأساسية في الحياة!

انتشر الخبر في العالم لتجربة هذا الشاب الذي لم يتجاوز عمره 22 سنة، واهتزت الأوساط العلمية للنتيجة، بتصورها بدايات الحياة أنها بدأت على هذه الصورة من البساطة، ولكن الحياة أكثر دهاء ومكرا مما نتصوره مهما مضينا في التصور.

 

ضربتان موجعتان لنظرية ميلر حول نشأة الحياة

لم تمض بضعة أشهر على تجربة ستانلي ميلر، حتى وجهت إلى نظريته في بدايات تشكيل الحياة ضربتان موجعتان؛ الأولى من علم الوراثة، والثانية من علم مناخ الأرض التاريخي. ليست الأحماض الأمينية هي التي تشكل الحياة، بل الأحماض النووية، ولم يكن مناخ الأرض يحوي الهيدروجين، وكانت الأرض تستحم بالأشعة فوق البنفسجية، التي تدمر وتبخر كل ما فكر ميلر فيه أنه كان ينتج الأحماض الأمينية من الغازات.

 

نافذة:

بدأ السائل الرائق يتغير لونه إلى الوردي الذي ما لبث أن انقلب إلى لون أحمر فاقع يسر الناظرين وبفحصه تبين تخمته بالأحماض الأمينية التي تعتبر أساس البروتينات

[1] مجلة الشبيغل ـ عدد 27 عام 1997 م ـ بحث الأرضيون قائمون (DIE ERDLINGE KOMMEN) بقلم اولاف ستامبف (OLAF STAMPF) ص 165

[2] الكون ـ كارل ساغان ، ترجمة نافع أيوب لبس ـ سلسلة عالم المعرفة ـ رقم 178 ـ ص 87

[3] قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ ترجمة فؤاد أندراوس ـ المجلد 27 الفصل السابع والثلاثون ـ ص 134 حتى 139

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى