شوف تشوف

الرأي

لماذا تحدث الحروب التقليدية

بقلم: خالص جلبي

إذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما، فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة ورواندا، في أذربيجان والشيشان وسوريا ولبنان؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف، لتسمع الإجابة، فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين.
إن هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذي شرحناه وقدمناه، وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من حديقة الفكر:
تقول الفكرة الأولى: إن العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين، الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه، وطورت كل الأسلحة التي تخطر على البال ولا تخطر، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي (أيزنهاور)، أي أنه لا سبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة، وفض النزاعات عن طريق الحروب، ولذا توقفت عن استعمال القوة في ما بين بعضها بعضا. وهكذا اقتربت فرنسا وألمانيا مع كل العداوات التاريخية القديمة، وتشكلت الوحدة الأوروبية التي يزداد أعضاؤها كل يوم، بحيث تتحول البحيرة الأوروبية مع كل يوم إلى بحيرة سلام، وأرض تفيض عسلا ولبنا.
والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثا لا رجعة فيها، فهو وإن كان يعيش بيولوجيا في نهاية القرن العشرين ولكنه ما زال يعيش عقليا في القرن التاسع عشر، فهي شريحة منتسبة إلى العهد العتيق؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع أو التلمظ لـ«صنم» السامري الجديد، سلاح شمشون الجبار، القنبلة النووية، التي يفككها من بدأ بصناعتها، ويندم على مليارات الدولارات التي أنفقها في إنتاجها، ويعلم علم اليقين أنها سلاح ليس للاستخدام، فهي صنم السامري الذي له خوار (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار)، ولكنه لا يضر ولا ينفع ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد الظروف حلكة، في حرب فيتنام وكوريا وسواه.
(2) وتقول الفكرة الثانية: إن عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن فهناك تياران في العالم، الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه، بعد أن شعر أنه صنم لا يضر ولا ينفع، وبدأ يكتشف أن أعظم سلاح هو الإنسان الجديد المسلح بالعلم والسلم، فهما الجناحان اللذان سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل، وتيار يكدس السلاح ويشتريه الليل والنهار، بل والمضحك أكثر، أن الفريق الأول يفكك السلاح الاستراتيجي فلا يبيعه، ويبيع السلاح السخيف، فيقبض عليه أموالا وفيرة، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف ودفع (مليون مليون = تريليون) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة وما زال، كل ذلك بسبب هذا العمى التاريخي عن المتحولات الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه.
(3) وتقول الفكرة الثالثة: إن هذه اللعبة العجائبية والمسلية يدركها أساطين السياسة، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في العالم الغربي علم اليقين، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن، لقناعتهم الراسخة أنه في الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسرون امتيازاتهم، ويتراجع مركزهم في العالم، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة. ولذلك فإنهم يحافظون بل ويشعلون الحروب هنا وهناك، لقناعتهم الكاملة أنها كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى الجديدة أن تبقى بعيدا عن الفهم الجديد. ولذا فكل الحروب التي تشتعل هنا وهناك، يجب أن نعلم أنها ليست تحت سيطرتنا، بل تحت سيطرتهم، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا بل بأيديهم، فهم ينصرون من يرون أن من مصلحتهم نصره، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج، كي تجري فيها جنبا إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين، واللعبة هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي، ولكن الملام الأكبر هو نحن المغفلين، وتجربة البوسنة التي تمثل «حيا أوروبيا» داخل أوروبا لا تخرج عن هذه اللعبة المقيتة، التي آخر ما ينظر فيها مقياس العدل والحق، وهذا واقع يجب أن نتعامل معه.
(4) وتقول الفكرة الرابعة: طالما هم الذين «يدركون» و«يستطيعون» فلماذا لا يطفئون الحرائق، أو لا يشعلونها على الأقل، وجواب هذا هو أن العالم الذي نعيش فيه كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي يعيش حالة فراق بين العلم والقيم، فالعلم شق الطريق إلى السلم، كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة، ولكن الذي حصل هو أن السياسيين ما زالوا لم يقفزوا القفزة نفسها النوعية التي قفزها العلم، فهم ما زالوا يريدون وضع الطاقة الجديدة في القربة القديمة، ولكن وضع «الغاز» في «قربة جلد» ينتهي بتعفن الجو وكارثة تفجير، كما هي في حروب السياسيين التي لا تنتهي، وما يحتاجونه هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار إليه غورباتشوف، فمسلمة (كلاوسفيتز) القديمة في فن الحرب، من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة، قد طواها الزمن وأكلها العث، ولكنها ما زالت حية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد. ومن هنا فإن المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم ويتركون آثارا بعيدة، فلا يظهر أثرهم إلا قليلا في عصرهم الذي عاشوه، فابن رشد ما زال يعيش في ذاكرة التاريخ، في الحين الذي لا نذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها.
إذا استطعنا أن نفهم هذه القضايا البسيطة والمصيرية فيمكن أن نصل إلى حل مشاكلنا بسهولة، من توديع العالم القديم، عالم الحرب والسلاح، وأن دخولنا إلى دائرة النار يجعلنا تحت سيطرة الذي يفهم اللعبة ويحولنا فيها إلى مسخرات (بالفتح) تحت رحمته، وسنبقى ندفع فواتير الدم والدموع، وحفلات التهجير الجماعي، وهدم المدن فوق رؤوس الناس بأيدينا وأيديهم، كما وصف القرآن اليهود (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار).
يقول المثل «الله يطعمك حجة والناس راجعة»، عن الرجل الذي أراد أن يذهب إلى الحج، عندما قفل الناس عائدين إلى بيوتهم، فإن أبينا إلا سلوك طريق القوة ونحن نرى الناس تعود منه منجفلة مذعورة، تنفض عن كاهلها الغبار الذري وهي لا تصدق أنها ما زالت على قيد الحياة، فسوف نكون أحمق من هبنقة وأشعب معا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى