الرأي

ماراثون الانتخابات الأميركية تجذّر الانقسام وسقوط الأوهام

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

جاء إعلان النتائج “غير النهائية” للانتخابات الرئاسية عبر المؤسّسات الإعلامية الأميركية الهائلة، من دون انتظار كلمة الفصل من السلطات الرسمية في كلّ ولاية على حدة، كما تقتضي القوانين السارية. وقد صعَد بموجبه جو بايدن إلى مرتبة “الرئيس المنتخب”، في ظل أجواء شديدة القتامة لما يخبئه المستقبل، وترسيخ لحالة شرخ عميق أفقي وعامودي، وتبادل للتهم بين الطرفين بفقدان الشرعية، بيد أنّ ما جرى كان ثمرة تطوّرات منهجية نتيجة جملة من التحديات والأزمات الاقتصادية المتزايدة، واكبتها شراهة من الطرفين للإنفاق العسكري غير المقيّد والوعد بالمزيد.

أفرزت الانتخابات مجموعتين متناقضتين ومتساويتين عددياً تقريباً: 71 مليوناً صوّتوا لترامب، بزيادة نحو 7 مليون عن الدورة السابقة، وزهاء 75 مليوناً صوّتوا لبايدن.

تفصل الكتلتين جملة أبعاد طبقية وعرقية وجغرافية (سكان المدن مقابل فضاء الريف الشاسع)، في ظل استنهاض ترامب لمطالب شعبية باستعادة أصول الإنتاج من الخارج وإلى الداخل الأميركي، فضلاً عن تباين الأولويات والتوجهات والانتماءات العقائدية والدينية.

تتساوق تلك النتيجة مع طبيعة النظام السياسي، أي تبادل الحزبين للسلطة، وتوحّد رؤيتهما لسيطرة أصحاب رؤوس الأموال وخدمتهم ضمن منظومة واحدة لسياسة الهيمنة والاستغلال على امتداد العالم. هذا يقودنا إلى الجزم باستمرار الطرف الفائز، خصوصاً إن رسخ الخيار على بايدن، في ممارسة السياسة المعتادة على الصعد الخارجية التي تتمظهر بسمات بارزة ، وتعد بمزيد من التدخّلات في دول العالم قاطبة، واستمرار سياسة النهب الاقتصادي، وسباق التسلح بنسخة اشد وطأة عما سبق.

ما اصطلح على تسميته بالتيار التقدمي في الحزب الديموقراطي، برئاسة بيرني ساندرز، يعاني حصاراً رسمياً متواصلاً، ومن أبرز رموزه النشطة النائب في مجلس النواب عن ولاية نيويورك، الكسندرا اوكاسيو كورتيز، إذ عبّرت بمرارة عن تهميش قيادات الحزب لمجموعتها، وذلك في مقابلة أجرتها معها يومية “نيويورك تايمز”، واتّهمتهم بالقفز عن المتغيرات الجارية داخل القاعدة الحزبية ذات المواقف المتباينة مع تفكير القيادات التقليدية وتوجهاتها، ما ينذر بحدوث تململ جديد داخل الحزب الذي لن يستطيع التعايش طويلاً مع طموحات الجيل الشاب.

هذا الأمر يجدّد قلق المؤسسة الحاكمة بكل أقطابها من تراجع مواطن سيطرتها كقوى تقليدية، والتي عبّر عنها المؤرخ الأميركي المشهور، صامويل هنتنغتون، قبل رحيله في العام 2008: “اتركوا صراع الحضارات جانباً، فما يهدّد الولايات المتحدة هو فقدان هويتها البيضاء” من ذوي الأصول الانغلو- ساكسون – بروتوستانت. وفي آخر كتاب أصدره بعنوان “من نحن؟”، كان أشد وضوحاً بقوله: “الحلم الوحيد المتوفر هو الحلم الأميركي الذي أنشأه المجتمع الأنغلو- بروتستانت”، (صحيفة “واشنطن بوست”، 18 تموز/يوليو2017).

في السياق العام لولاية الرئيس ترامب، ثبت جلياً صراعه المباشر مع ركائز المؤسّسة الحاكمة والتصادم معها، أو ما أسماه هو مباشرة “الدّولة العميقة”، أي منظومة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية والامبراطورية الإعلامية. ومن أبرز تجليات ولايته، كان استهدافه المباشر من قبل أركانها المتعددة، بتوجيه شباك اتهاماتها المتتالية للنيل من وطنيته، بيد أن تماسك قاعدته الانتخابية وصلابتها فرضت على الطرف الآخر بعض التراجع، وفي منظوره التأهّب لجولة جديدة، لعلها تكون القاضية على مستقبله السياسي.

جاءت نتائج الجولة الانتخابية مخيبة لآمال المؤسّسة الحاكمة في هذا السياق تحديداً، بنجاح ترامب في تكريس الشرخ الاجتماعي، وهو الآتي من خارج المنظومة التقليدية، بيد أن الفارق الانتخابي الذي لم تحسم نتائجه النهائية بعد يؤشّر إلى نجاح مخطط المؤسّسة في اغتيال ترامب سياسياً، وأبرز تجلياته فتور الدعم والتأييد الذي قوبل به من قبل قيادات الحزب الجمهوري، إلى أن استطاع “ابتزازها” بالاصطفاف خلف نيته بالتوجه إلى القضاء لحسم النتائج النهائية، ما حدى برئيس مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، بعد أن فاز بدوره في تمثيل ولايته كنتاكي، إلى التأكيد أن للرئيس ترامب “كامل الحق 100% بالتوجه إلى القضاء”.

كشف الرئيس ترامب خلال ولايته وصراعه المعلن مع المؤسّسة الحاكمة عن تردي، وربما سقوط، أوهام “مصداقية النظام الأميركي”، وشاطره الرأي المفكر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، والكاتب الدائم في صحيفة “نيويورك تايمز”، بول كروغمان، متنبئاً بـ “فشل الدولة” الأميركية (“نيويورك تايمز، 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2020).

كروغمان الذي يعد من أبرز أقطاب المؤسسة الحاكمة وذراعها الفكرية لا يخفي ارتياحه لفوز بايدن، لكنه يحذر من فشله في انجاز مهامه الرئاسية، نظراً إلى تجسّد حالة الانقسام السياسي “وسيطرة الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ، الذي سيعمل على تخريب مشاريع بايدن بكل السبل المتاحة”. ويعيد كروغمان إلى الأذهان تواضع تمثيل مجلس الشيوخ للشعب الأميركي وميله لتأييد القطب الجمهوري بنحو 7 نقاط مئوية عن التمثيل الحقيقي.

القطب الصحفي الآخر والمؤيد بشدة للحزب الديموقراطي، توماس فريدمان، عبّر عن امتعاضه، نيابة عن المؤسّسة، من النتائج التي “لم تُسفر عن رفض جماعي باهر لقيادة سياسية نجحت في تشتيتنا، خصوصاً خلال الجائحة”، ومضى في سرديته السوداوية من المستقبل، بصرف النظر عن الفائز النهائي، كما يؤكد، بسقوط الولايات المتحدة في هذه الجولة الا نتخابية، وهي تعاني من “انقسامات مركّبة ومتعددة، ولن يكون بمقدورنا تحقيق طموحاتنا الجماعية، كالهبوط مرة أخرى على سطح القمر”، (“نيويورك تايمز”، 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2020).

لجوء الرئيس ترامب إلى القضاء من أجل الطعن في نتائج الانتخابات عملية ليس مضمون النتائج، نظراً إلى الظروف القائمة وتعقيدات المشهد السياسي الراهن، ما قد يحفّز جمهور الرئيس ترامب (أي نصف المجتمع) على رفض نتائج لا تلبي رغباته، وهو ما حذّر منه فريدمان وغيره من أقطاب المؤسسة الحاكمة بالإقرار الباهت بفشل التجربة الديموقراطية في أميركا.

برزت التناقضات بين القيادات السياسية والسلطة القضائية باكراً، برفض الأخيرة الانصياع إلى طلب الرئيس ترامب تقييد سلطات ولاية بنسلفانيا لفرز وعدّْ أصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم مبكراً، ولا يزال الأمر قيد البحث، نظراً لخصوصية القوانين المحلية للولاية، وحرص المحكمة العليا على عدم التعرض لصلاحية القضاء المحلي بهدف تقويضه، ومن ناحية أخرى لاعتبارات تفشي فايروس كورونا، ما استدعى اتخاذ إجراءات استثنائية.

يتطلع الرئيس ترامب إلى استصدار قرار من المحكمة العليا يحابي وجهة نظره، وذلك بتدخّلها لإبطال بطاقات الانتخاب التي تسلّمتها مراكز الاقتراع بعد موعد إغلاقها أبوابها عند الساعة الثامنة من مساء يوم 3 تشرين الأول/نوفمبر الجاري. وعليه، يستطيع ضمان فوزه بأصوات الولاية بحسب البيانات المتوفرة.

كما يأمل الرئيس ترامب الطعن في نتائج ولايات حاسمة أخرى، مشيغان وويسكونسن، ضمن قوانين الولايات السارية، والسير في خياره الأخير بالتوجه إلى المحكمة العليا للبت في المسألة عينها: المصادقة على إبطال بطاقات تصويت إشكالية.

ترامب، عند قراءة النتائج الواقعية، لم يفز بالعدد الهائل لأصوات الناخبين فحسب، 71 مليوناً، بل استطاع التفوق على الأصوات التي حصدتها المرشحة السابقة هيلاري كلينتون بزهاء ميلوني صوت، ما يؤكد أن مؤيّديه ليسوا من الكتلة الانتخابية التي رفضت كلينتون حصراً، كما يسعى خصومه لإشاعته، ويدلّ بجلاء على تباين المزاج العام عن تصورات وتكهنات المؤسسات الإعلامية وسعيها إلى توجيه الشعور الجمعي نحو سرديتها الخاصة.

من بين “الأوهام” التي زرعتها المؤسّسة الإعلامية تكهّنها المفرط بفوز الحزب الديموقراطي بفارق ملحوظ في مجلسي الكونغرس. مخاض الانتخابات أفرز نتائجه الأولية بصورة مغايرة بشدة لتلك التوقعات، وفاز “الخصم” الجمهوري بمقاعد إضافية في مجلس النواب، مهدداً صلابة الأغلبية الديموقراطية هناك، وكذلك الأمر في مجلس الشيوخ، باحتفاظه بأغلبية مقاعده، 50 مقابل 48، حتى لو خسر مقعد تمثيل ولاية جورجيا في الجولة الاستثنائية يوم 5 كانون الثاني/يناير من العام الجديد.

استطاع الحزب الجمهوري أيضاً التشبث بأغلبية مقاعد حكام الولايات، 27 من 50، ما يؤشر إلى توجه حقيقي لزيادة أعداد ممثليه في المجالس الفيدرالية عبر التعيين أينما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والأهم الصلاحية الموكلة لحاكم الولاية بتحديد هوية ممثلها للمجمع الانتخابي يوم انعقاده الرسمي يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 2020.

بموازاة ذاك الانجاز للحزب الجمهوري، استطاع أيضاً توسيع قاعدته التمثيلية في المجالس التشريعية في بعض الولايات “الحاسمة”، مثل بنسلفانيا ونورث كارولينا، وما سيتركه من تداعيات على تشكيل الأجندات السياسية المقبلة. تجدر الإشارة إلى نجاح “الخصم” الديموقراطي في كسب مقعدين كانا للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، كولورادو وأريزونا، بينما خسر المراهنة على إزاحة ممثلة ولاية “مين” الجمهورية سوزان كولينز.

أبرز تمنيات الحزب الديموقراطي بأن تسفر النتائج النهائية عن تعادل تمثيله في مجلس الشيوخ، 50 إلى 50، كي تستطيع نائب الرئيس الجديدة الإدلاء بصوتها لترجيح كفته في أي جلسة تصويت مرتقبة، بيد أن ما يتهدد “تمنياته” هو سعي الرئيس ترامب إلى إثارة أزمة دستورية تدلّ على عمق المأزق البنيوي في النظام السياسي، وما يرافقه من الطعن بشرعية “الرئيس المنتخب” من قبل نصف المجتمع الأميركي.

من المستبعد حسم تلك القضايا الخلافية ضمن ضوابط المؤسّسات والقوانين السارية، وفي فترة زمنية قصيرة، على الرغم من أهليتها وانصياع الطرفين إلى قرارها النهائي، أو بمعزل عن اتفاقيات ترضية لتقويض تداعيات انفلات الشارع الانتخابي وانزلاقه نحو عدم الاستقرار.

تذهب بنا التكهنات إلى عقد الطرفين جملة تسويات منتظرة تستند إلى توفير “المؤسسة” الرسمية ضمانات بعدم التعرض للرئيس ترامب وملاحقته قضائياً بعد خروجه من البيت الأبيض كشرط ترضية، مقابل “تهنئته” الفائز جو بايدن، كعنوان لمواصلة المؤسّسة مهامها من دون انقطاع، والسعي الحثيث لترميم الأضرار المتعددة، من مصداقيتها وأهليتها، إلى زعمها المتواصل بقيادة العالم وحيدة.

لعل المسألة الأخرى التي ينبغي تناولها هي الدوافع التي حفّزت قيادة الحزب الديموقراطي، الرئيس أوباما وأعوانه، على إعادة الحياة السياسية لجو بايدن، بعد أن شارف على الهزيمة في الانتخابات التمهيدية مقابل تقدم مؤكد لمنافسه بيرني ساندرز وجناحه “التقدمي” داخل الحزب.

كما ينبغي إماطة اللثام عن “اختيار” الحزب لكمالا هاريس التي لم تستطع الحصول على تأييد إلا بنسبة باهتة، أقل من 1%، في الحملة الانتخابية، ما يعتبره الكثيرون دلالة على توجه انقلابي داخل مؤسسة الحزب الديموقراطي “لإقصاء الجناح التقدمي وزعيمه بيرني ساندرز” للمرة الثانية، بعدما تم اقصاؤه في انتخابات العام 2016 لصالح هيلاري كلينتون.

وربما سنتناول تلك القضايا، إضافة لدور المال الانتخابي، ببعض التركيز والعمق في المستقبل القريب. ومع كتابة هذه السطور، تسود تكهنات في واشنطن وخارجها بأن إقالة وزير الدفاع مارك اسبر، وتنصيب ترامب مؤيدين له في مناصب حساسة في البنتاغون، يؤشّر إلى التحضير لعمل عسكري، ما يؤدي إلى حرف الأنظار عن خسارة ترامب للإنتخابات ويعزز من فرص تشويشه على تنصيب بايدن، ولكن البعض يذهب الى نقيض ذلك، بالزعم انه قد يتخذ قرارات مفاجئة ومخالفة لنصائح وزارتي الخارجية والدفاع (البنتاغون) وأجهزة الاستخبارات، ويسحب معظم القوات الأميركية من عدة بلدان في منطقة عمليات القيادة المركزية.

الأيام والأسابيع القادمة قد تكشف عما يخبِّئه ترامب، وخصوصاً أنه مع حلول يوم 20 من الشهر الجاري قد تعلن معظم نتائج إعادة الفرز في الولايات التي يتمّ الطّعن في نتائجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى