شوف تشوف

محاربة الرشوة بالتيمم

لدي سؤال بسيط للسيد وزير العدل وما تبقى من حريات، ويتعلق بتعريفه لمفهوم التبليغ. لقد سمعنا سعادة الوزير في البرلمان يتحدث عن إنجازه العظيم المتمثل في تدشينه لخط أخضر يتلقى فيه ثلاثة قضاة بمقر الوزارة تبليغات المواطنين بخصوص جرائم الرشوة.
نطرح هذا السؤال الذي يبدو في ظاهره بسيطا، لأننا أصبنا بحيرة بخصوص فهم معالي الوزير لمصطلح «التبليغ».
فإذا كان وزير العدل يقصد بالتبليغ إيصال معلومة إلى علم الوزارة، بأية طريقة كانت، بشأن فساد أو ارتشاء، فإن هذا بالضبط ما نقوم به يوميا دون أن يحرك معالي الوزير، بوصفه رئيس النيابة العامة، البحث والمتابعة القضائية، وإذا حدث وحركها فإنه يحركها ضدنا.
وأغلب الظن أن معالي الوزير فتح هذا الرقم الأخضر، الذي سيصبح لا محالة أحمر من شدة الخجل بسبب كل الشتائم التي قال الوزير إنه يتلقاها فيه، على سبيل الترويج الإعلامي لشعار محاربة الفساد.
نقول هذا الكلام لأننا رأينا كيف تم تبليغ معالي وزير العدل عبر ثماني حلقات في «اليوتوب» بجرائم ارتشاء مفترضة في قضية صفقات المخطط الاستعجالي لوزارة التعليم، ومع ذلك لم نسمع معالي الوزير يصدر بلاغا يخبر فيه الرأي العام أنه بعدما بلغ إلى علمه أن هناك تسجيلات مسربة لمسؤولين يعترفون فيها بالغش والفساد والارتشاء في صفقات عمومية، فإنه أمر بوصفه رئيسا للنيابة العامة بفتح تحقيق مفصل مع كل من ذكر اسمه أو سمع صوته في تلك الأشرطة، بمن فيهم مستشار رئيس الحكومة في التعليم، وأنه سيتابع هذا التحقيق وسيطلع دافعي الضرائب الذين من جيوبهم خرجت ميزانية المخطط الاستعجالي بكل جديد في الموضوع.
وعوض أن يخرج وزير التعليم بدوره ببيان مماثل حول هذه التسريبات الهاتفية الخطيرة، فضل أن يخرج ببلاغ حول تسريبات الباكلوريا وأن يخبر الرأي العام بأنه طلب من مؤسس «الفيسبوك» أن يساعده على تحديد الفاعل، وأنه لا يضمن أن يتكرر التسريب مرة أخرى.
أما معالي وزير العدل فكل ما قدره الله عليه هو قيام النيابة العامة باعتقال موظفة بأكاديمية الرباط للتربية والتكوين ومتابعتها في حالة اعتقال بتهمة تسريب المكالمات التي كشفت التلاعبات وجرائم الارتشاء والفساد في صفقات المخطط الاستعجالي.
إذا ثبت فعلا أن هذه الموظفة هي من سرب المكالمات التي تتضمن كل تلك الاعترافات الخطيرة، فإن وزير العدل يجب عليه أن يمتعها بقانون حماية المبلغين عن الفساد وأن يمنحها جائزة لا أن يعتقلها ويرميها في السجن.
وحتى لو كانت هذه الموظفة متورطة في هذه الشبكة، فإنها فضحت هذه الشبكة أمام الرأي العام والقضاء يؤهلها للاستفادة من ظروف التخفيف نظرا لتعاونها مع القضاء على فضح الفساد.
في أمريكا يتفاوض القضاء مع المجرمين وأعضاء شبكات المافيا على حريتهم مقابل منح الشرطة معلومات حول الشبكة ورؤوسها المدبرة، وفي إطار حماية الشهود والمبلغين عن الفساد يذهب القضاء الأمريكي إلى حد منح هؤلاء الشهود بطاقات هوية وحياة جديدة في ولايات أخرى بعيدة حرصا على حياتهم واستقرار عائلاتهم.
فما الذي يصنعه معالي وزير العدل هنا في المغرب لصالح الشهود والمبلغين عن الفساد والرشوة؟
عندما نشرنا لوزير العدل لائحة بأسماء قضاة وموظفين قضائيين حكموا بالإفراغ على مواطنين من مساكنهم ثم اقتنوا شققهم بعشرة ملايين للشقة في قلب الدار البيضاء، قرأها وعوض أن يفتح الوزير تحقيقا في الموضوع ويعاقب هؤلاء إذا ثبت استغلالهم لنفوذهم من أجل التربح وتملك عقارات، أرسل إلي ثلاثة رجال أمن لكي يعتقلوني ويحضروني إلى ولاية الأمن في يوم أحد لكي يخيروني بين دفع غرامة أو السجن.
عندما ورطت سيدة بالرشيدية قاضيين في الارتشاء، صدر في حقها حكم بثلاثة أشهر في الابتدائي وتحول إلى خمس سنوات في الاستئناف، بتهمة ثقيلة هي محاولة إضرام النار. والمدهش أن الهيئة التي أصدرت الحكم توجد في الرشيدية، أي المحيط القضائي الذي لدى السيدة خلاف مع مسؤوليه ورؤسائه.
عندما فضح موظف بوزارة المالية ملف العلاوات التي كان يتبادلها الخازن العام بنسودة ووزير المالية آنذاك صلاح الدين مزوار، ركب حزب العدالة والتنمية على القضية سياسيا، وبمجرد ما أحس أنه استنزفها أهمل الملف، فانتهى الموظف متابعا أمام القضاء ومحكوما بشهرين حبسا، فيما انتهى مزوار وزيرا للخارجية إلى جانب مصطفى الرميد وزير العدل.
عندما نشرنا أشرطة المكالمات التي تفضح الفساد المستشري في وزارة العدل، سارع الوزير إلى تبخيس محتوى هذه الأشرطة واستدعى المهندس الذي سربها للتحقيق، وفي الأخير انتهى فاضح الفساد بوزارة العدل مهمشا محروما من الاشتغال على أي ملف.
عندما نشرنا شريطا صوتيا يحكي فيه إطار سابق كبير في حزب العدالة والتنمية بالقنيطرة عن جرائم مفترضة يكون قد ارتكبها رئيس المجلس البلدي عزيز رباح في إطار تدبيره لصفقات عمومية، خرج علينا إعلام الحزب الحاكم لكي يتهمنا بالضلوع في جريمة التجسس على المعطيات الخاصة للمواطنين وأننا نتلقى مكالمات المواطنين من طرف جهات أمنية سرية، وكتبت «التجديد» افتتاحيات ومواضيع بالبند العريض تطالب وزير العدل بفتح تحقيق معنا بتهمة التجسس.
والغريب في الأمر أن لا أحد فكر في فتح تحقيق حول محتوى التسجيل، أو تجرأ على استدعاء الأشخاص الذين يرد ذكرهم فيه من أجل مطالبتهم بتأكيد اتهاماتهم بالدلائل.
كل ما كان يهمهم هو تسفيه فعل النشر وتجريمه، أما محتوى الشريط فلا يهمهم معرفة مدى صدق الاعترافات والاتهامات الخطيرة الواردة فيه.
وعندما نشر قاض من العيون أشرطة مسجلة تفضح استغلال النفوذ والفساد في الجهاز القضائي بالعيون، لم يفتح وزير العدل تحقيقا في محتواها، بل اكتفى بنعت القاضي بالجنون وفصله بعد ذلك.
إن واجب الصحافي، والمواطن عموما، هو أن ينشر بأية وسيلة كانت الأشرطة والأدلة والاعترافات التي تتعلق بقضايا المال العام، لأن الأمر عندما يتعلق بالمصلحة العامة فإن الحياة الخاصة تتوارى إلى الخلف.
نحن لم ننشر كل تلك الأشرطة بغاية التشهير بأصحابها أو بغاية الانتقام منهم، بل نشرناها لأنها تتعلق بشبهات تحوم حول ملفات ذات طبيعة عمومية تدخل في إطار تدبير صرف المال العام.
لهذا فإن الإنجاز الباهر الذي يفتخر به وزير العدل والمتمثل في خطه الأخضر، ليس سوى ذر لـ«الرميد» في العيون، لأن الوزير لو كان فعلا عازما على أخذ التبليغ عن الفساد والرشوة على محمل الجد لكان فتح تحقيقات قضائية في كل تلك الأشرطة التي يصله صداها عبر الصحافة، و«الأخبار» أساسا، أو عبر موقع «يوتوب».
وبما أن معاليه يفضل أن يغض الطرف عن كل هذه البلاغات التي تصله، فإنه من حقنا أن نعتبر خطه الأخضر مجرد فرقعة إعلامية مثلها مثل فرقعات زميله وزير الصحة، الذي أصبح كلما أسعف مستشفى من مستشفياته عجوزا في قرية نائية، إلا دبج حولها بلاغا وأرسله إلى وسائل الإعلام في إطار حملته «شوفوني راني خدام».
«زعما داير فينا الخير، راك كاتشد على هاديك الخدمة سبع ملاين فالشهر أمولاي».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى