الرئيسيةثقافة وفن

محمد خير الدين.. ابن حجر الريح

إعداد وتقديم: سعيد الباز

لم تنشأ أسطورة محمد خير الدين اعتباطا أو بمحض الصدفة. نحن أمام اختيارات حاسمة لكاتب لا يعتبر فعل الكتابة ترفا أو وجاهة. إنّها حرب ضروس يخوضها كاتب أعزل تّجاه الذات وتّجاه الآخرين خارج كل الأنساق والمواضعات المألوفة. إنّ بيان الكتابة الذي حرره بنفسه «الشعر كلّه»، أواسط الستينيات، في مجلة «أنفاس»، لم يكن نصا مؤسسا للكتابة الجديدة في المغرب، بل كان بمثابة خريطة طريق لما سيقدم عليه محمد خير الدين مستقبلا، سواء بعد انتقاله إلى فرنسا وعودته النهائية إلى المغرب. لم تشده حبال الفرنكوفونية المغرية، كان بإمكانه مجالسة كبار مفكري ومبدعي عصره وينال إعجابهم، من جون بول سارتر وصمويل بيكيت.. وأن ينشر في أرقى مجلات ودور النشر في فرنسا ولكن أن يبقى، في الوقت نفسه، ذلك الزاهد في كلّ مجد أدبي خادع. لقد كان من طينة أخرى لا تأسره سوى الكلمات التي يبدو بشكل جازم أنّها تخضع له ودوما طوع بنانه، رائيا مثل آرثور رامبو وسائر الملعونين الذين وجد لديهم حضنا وملاذا.
هو ابن «أزرو واضو» في تافراوت حيث بدأت رحلته في هذا العالم، أزرو واضو التي تعني حرفيا باللغة العربية «حجر الريح». هذا الاسم وحده يكاد يلخص محمد خير الدين الحجر في صلابته والريح في عصفها. لذلك كتاباته لا تمالئ القارئ أو الناقد إنها جارفة تخترق كل الحدود لا فاصل بينها وبين السرد والشعر، بين الأسطورة والواقع والخيال من أجل قارئ يقرأ بتلك المشقة والعناء الممتعين.
مرة قال محمد خير الدين: «أنا سليل سلالة منسيّة، لكنّي أحمل نارها»، وبعيدا عن كل تأويل مختزل يخرج الكاتب عن سياقه لأنّ الأقرب إلى فهم تجربة خير الدين العصية هو انتسابها الكامل لجذوة الكتابة ونارها الملتهبة.

النبّاش: من انتهاك حرمات الموتى إلى الأحياء
.. كنا نسكن منزلا واطئا في جهته الجنوبية يوجد إسطبل وعدّة غرف موزعة على مساحة مماثلة لمنزلي الحالي. المنزل لم يكن إذن كبيرا من حيث علوه لكنه طويل إلى درجة أنك تضيع فيه. كان مظلما جدا إلى حد أنني أخبط الحيطان عندما أفر من أبي- أمي المتحضرين دائما لضربي بالعصا. أبي-أمي لم يكونا يسمحان لي حتى باللعب في غرفة أوى إليها سابقا شخص مات كغرفة جدي وجدتي اللذين ما زلت أتذكرهما جيدا كونهما كانا لا يفتآن يداعباني ويمسحان على شعري بأصابعهما الصغيرة اليابسة والقاسية مثل درع سلحفاة الماء الحلو عندما يرمي الفيضان بمستحقاته على المشهد المحتوى بين سلسلتين جبليتين منخورتين، إحداهما كانت دائما مخضرة مزهرة والثانية جرداء قاحلة جافة، لكنها ملتمعة تحت ضربة منتصف الليل عندما يجعل القمر الأرض والسماء يسبحان في خدر ناعم. كان جدي وجدتي يرافقاني كل يوم جمعة إلى المقبرة ويشرحان لي كيف كان موتاهم يقيمون الصلاة ويرتلون الأدعية ويذكرون الله ورسوله ثم كانا يجبراني على الانحناء على قبر مغطى بشظايا الزجاج وحطام أواني المطبخ الخزفية. الأشياء الوحيدة التي تسعد هؤلاء الأقارب المفقودين كما يقولان هي نفخ جبريل في الصور لمدة طويلة لتحشر كل الكائنات: حيوانات زاحفة، كلاب واهنة، رجال، حشرات، خشاش الأرض، صراصير وجعلان.. عندما تنبعث كل الكائنات والنباتات التي التهمناها أو حتى تلك التي لمسناها مجرد لمس خفيف تقوم مثل بذور قمح على مقبرة العالم الكبيرة في مواجهة الله القاضي الصارم. جدي وجدتي ماتا في نفس اليوم بينما كنت أصطاد الجراد.. يوم ثقيل، نحاسي، ملتمع إلى ما لا نهاية، لكنه مشرف على هوة تنتقل أسفل قدمي. جريت وسط الصخور، اصطدمت بالشجيرات الشوكية وبالعوسج المتيبس الذي حط عليه بعض الجراد المسافر نابشا وهاربا من الكلاب التي يقال إنها تصبح مسعورة خلال فصل الربيع والتي تتلقفه وتلتهمه، لكنها في ما بعد ترمي به كي تقبض على بعض آخر منه متوتر محاولا الفرار.

يوميات سرير الموت
لن ألزم نفسي ههنا تسلسلا زمنيا. فلست أستمرئ التسلسل الزمني كثيرا. غير أنّي لن أضنّ على القارئ من الإشارات بما يسمح له الاهتداء إلى زمن هذه اليوميات.
إنّه مقامي الثاني في هذه المؤسسة الاستشفائية الرباطية. كنت قد نزلت بها من قبل، في سنة 1993، في سرطان غدّي أصاب فمي. تطلب تفتيه إخضاعي لحصص متواصلة من العلاج الكيميائي، ومواظبتي على تناول أدوية أخرى، لم أكن آلم كثيرا آنذاك، قاومت الداء بعزيمة صلبة لم يفتّ فيها شيء. وأمّا هذه المرة فقد وجدت من الألم ككلبٍ، كلبٍ عجوز يئن من الداء وحيدا أعزل من صاحب، في زاوية من الزوايا.
كانت مبتدأ هذه المحنة كلّها عملية قلع ضرس، باءت بالفشل. فبدل أن يقلع الطبيب الضرس المريض، إذا هو يكسر، من جهالته، عظم الفك، حتى كدت يغمى عليّ، برغم ما كنت فيه من تخدير. عاجلتني الممرضات بقارورة مصل نبهتني من عيائي الشديد، وأعانتني على بلوغ فندق باليما بسلام.
.. صرت عاجزا عن تناول شيء من الطعام إلا أن يكون سائلا أو حساء خفيفا. نقص وزني، وهزلت في لمح البصر. أقضي سواد يومي رهين السرير، مضطجعا على جنبي الأيسر (المريض) لم يعد في مقدوري أن أتخذ لي وضعية سواها. انقطعت عن الخروج، واشتدّ توتري حتى صرت أغضب وأحنق لأتفه الأسباب. بححت (و لا أزال فاقد الصوت حتى كتابة هذه السطور).
ها أنذا طريح الفراش. يتنازعني عالمان غامضان مشوشان، هزيل، أمنيتي الوحيدة أن أنعم، بعد لأي، بالهدوء ولا آلم من شيء. أخرج من هذا الجسد المؤلم، وأتنفس الصعداء، ولو هنيهة. لم يتسنّ لي الخروج غير مرات ثلاث. وفي ثلاث مرّات متوالية أغمي عليّ، وغبت عن الوعي. صرت في حالة من الإعياء أنني لا أحس في كياني كله بغير ألم واخز ممض.
.. أخضعت، حينئذ، لكحت العظم (في عمليتين اثنتين).. وحقنت حقنا متواصلا مرات كثيرة، ناهيك عما لا يحصى من الحقون العضلية. يزاد إليها ما كنت أتناول من أقراص.. وما شعرت بشيء من التحسن إلّا بعملية الكحت الثانية. فقد غمرني شعور أني، بعون الله، في سبيلي إلى الشفاء. لكن يلزم الانتظار والصبر الكثير. أدعو الله الواحد الأحد، آناء الليل وأطراف النهار، أن يخفف عني آلامي وأوجاعي. كنت أقاوم الألم، جاهدا للإفلات من حبائله، والانفلات من هذا الجسد وسمومه.. يصور لي الخيال شخصيات أسطورية. تستخفّني الرغبة في الكتابة عن إحداها. يعتمل رأسي جملا مكتملة البناء، في ذلك الخدر الشبيه بالحلم (النوم اللّامعقول). في ذهني كتاب، جاءني من حيث لا أحتسب. قصة تحكي عن زوج عجوز يعيش من غير ذرية في قرية بوادي أمّلْنْ. القرية يغزوها التحول بتوالي السنين.. أفلحت في إتمام هذا المؤلف الجديد في مدة لا تزيد عن الشهر إلّا قليلا. ولولا العون الدائم من الله، لما كتبت شيئا، ولما راودتني فكرة الكتابة مجرد مراودة.. لكن كان الله لي معينا، ويسر لي سبيل الكتابة. سوف ترون مدى روعة هذه التحيفة الأدبية. وأما أنا فأشكر الله أولا أن قيّض لي أن أعيش هذا النص وأتشبّع به قبل أن أشرع في كتابته. فقد عشت كل مشهد من مشاهده، وكل دقيقة من دقائقه، وألممت بتفاصيله…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى