الرئيسيةبانوراما

مقبرة الحزام الكبير.. ممنوع ولوج الزوار

حسن البصري
رغم انفراج الوضع الحقوقي، وتنامي دور جمعيات المجتمع المدني، فإن عشرات الأسر المغربية والبيضاوية على الخصوص، لاتزال تعاني من تبعات حصار رهيب على مقبرة دفن في تربتها ضحايا انتفاضة 20 يونيو أو ما بات يعرف بـ«ثورة كوميرة»، على حد تعبير وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري. فزيارة القبور ممنوعة بقرار صادر عن سلطة بادت، والترحم على دفين القبر مرفوض لأن القبر لا يحمل هوية ساكنه والمقبرة لا تتوفر أصلا على باب، وكأنها محمية محظورة معزولة عن السكان.
من يقف أمام مقبرة الحزام الكبير بالحي المحمدي للدار البيضاء، سيكتشف أن الموتى لازالوا يقضون عقوبة المصادرة من الحق في زوار يتلون على شواهدهم آيات بينات من الذكر الحكيم، ويروون الأزهار بماء معطر.
في شارع الحزام الكبير غير بعيد عن المقبرة اليهودية، وبمحاذاة مركز تكوين تابع لشركة «ليديك»، تقابلك قطعة أرضية محاطة بسور إسمنتي متين، بلا أبواب ولا منافذ، بين الفينة والأخرى يصادفك شخص يحول الجدار العازل إلى حائط مبكى، فتكبر في دواخل عابري السبيل علامات الاستفهام حول المكان الذي يعتبر مقبرة في منزلة بين السرية والعلنية.
من المفارقات الغريبة، أن تتواجد في المكان نفسه مقبرة لليهود لها باب وحارس وقيم عليها ومخبرون يترددون بين الفينة والأخرى على «الميعارة»، وعلى بعد أمتار قليلة تواجهك مقبرة «النصارى» ببابها الكبير المفتوح في وجه العرب والعجم والذي تتراص حوله محلات لبيع الورود. كما توجد في ظهر المقبرة الممنوعة «من الصرف» مقبرة «الشهداء» التي أغلقت أبوابها في وجه المواكب الجنائزية إلا من يملك «قبورا عائلية» أو من له «واسطة» في مجلس المدينة.
في هذا المركب الجنائزي، وحدها مقبرة الحزام الكبير هي الممنوعة من الزيارة بقرار «معماري»، بعد أن «نسي» المهندس الذي بنى سورها ووضع قبورها وضع بوابة لهذا المكان، ربما إيمانا منه بحرمة المقبرة فرفض أن تطأ أرضها أقدام البشر.
«الروبورطاج» التالي يقربنا أكثر من حكاية مقبرة ليست ككل المقابر، لأنها بلا بوابة ولا بواب ولا مدخل ولا مخرج، وكأن الراقدين تحت ترابها محكومون بمنع الزيارة إلى الأبد.

أسباب النزول
في الـ 20 من شهر يونيو سنة 1981، تحولت مدينة الدار البيضاء إلى جزء مستقطع من عملية إبادة كبرى، أعادت إلى الأذهان غارة «الفرنسيس» على المدينة العتيقة في بداية القرن الحالي وتحديدا سنة 1907، وذكرت ساكنة المدينة بـ«ضربة ساليغان» سنة 1947، وغارة جيش أوفقير سنة 1965 في ما بات يعرف بإضراب الدار البيضاء، مع اختلاف في أسباب النزول ومزاج القناصة وعتادهم ونوايا مسؤوليهم.
كان العنف هو العملة المتداولة على امتداد يومي 20 و21 يونيو 1981، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، كانوا ضحايا آلة قمعية رهيبة لم تتردد في استعمال أسلحتها بدون سابق إنذار. سقطت أول ضحية بفعل إطلاق الرصاص بدرب غلف وعمرها 12 سنة، ثم توالت عمليات إطلاق الرصاص. وبلغة الأرقام تجاوز عدد ضحايا الانتفاضة 637 قتيلا، بالإضافة إلى حوالي 5000 جريح، و20 ألف معتقل، 2000 منهم أحيلوا على القضاء، والكثير منهم أدينوا بعقوبة حبسية وصلت إلى 20 سنة مع الإجلاء خارج الدار البيضاء.
لا توجد أرقام حول عدد الضحايا الذين انتهى بهم المطاف أجسادا بلا ملامح، إلا أن جمعية «ضحايا انتفاضة 20 يونيو»، لازالت تحلم بيوم تنكشف فيه أسرار حقيقة المقبرة التي تحتضن قبورا بلا شواهد ولا أسماء ولا هم يفهمون.

من الوقاية المدنية إلى مقبرة الحزام الكبير
في 12 دجنبر 2005 تم إعادة دفن رفات العشرات من ضحايا الانتفاضة التي عاشتها مدينة الدار البيضاء سنة 1981، بإشراف من هيئة الإنصاف والمصالحة، بعد العثور على المقبرة الجماعية التي كانت السلطات الأمنية تخفي فيها جثث القتلى. قام نحو 12 فردا من الحماية المدنية بعملية الحفر بواسطة الجرافات، وقبل أن ينصرف الحاضرون، أعيد دفن الجثامين في قبور فردية بحضور الطبيب الشرعي وعدد من المسؤولين الأمنيين ومسؤولين من الهيئة الحقوقية الرسمية. لم يتم إخضاع الضحايا لأي إجراء طبي وتبين أن الداخلية تعتزم «استخراج الموتى من الحفرة الكبيرة ودفنهم في مقابر بأقصى سرعة ممكنة، فقد تم استخراج الجثث من قبور جماعية يوم الجمعة وإعادة دفنها بسرعة يوم السبت. ولأن سرعة الدفن كانت إجراء أمنيا فإنه جرى دون اللجوء إلى المعايير الدولية المتعارف عليها في مثل هذه الحالات، إذ دفن الموتى دون الدقة في تحديد الحمض النووي أو حضور لجنة مستقلة أو استدعاء العائلات وتمكينهم من معرفة أسباب الوفاة».
وجه سعيد مصرور، رئيس جمعية «ضحايا انتفاضة 20 يونيو»، رسالة إلى الوكيل العام للملك بالدار البيضاء، يطالبه فيها بتحريك المسطرة في حق مجزرة 20 يونيو، والمتورطين في ملف الاعتقال التعسفي، داعيا إلى تحقيق ما يسمى العدالة الانتقالية التي يسوق لها خارجيا، والتعجيل بالكشف عن التحليلات الجينية وتمكين أهالي الشهداء من حق نقل الرفات إلى مقابر مفتوحة، لكن الرسالة ظلت بدون رد رغم مرور عقد على صياغتها.
ويضيف سعيد أن المعاناة لا تقتصر على الموتى فقط بل تتجاوزهم إلى الأحياء، إذ إن عددا من «المعتقلين يعيشون اليوم أوضاعا مزرية، تحتاج لمعالجة إنسانية لهذا الملف بعيدا عن المقاربات السياسية».

أهالي الموتى يترحمون عن بعد
يلجأ أهالي الموتى إلى تقنية الترحم عن بعد، كلما زاروا المقبرة واكتشفوا أنها بلا باب ولا بواب، ولا موقف للسيارات، لهذا تضطر الأمهات لإلقاء نظراتهن من أعلى السور الحصين، ويدعون لأبنائهن وبناتهن بالمغفرة وبانفتاح الأبواب في الجنة قبل فتحها على واجهة شارع الحزام الكبير.
يحرص منظمو الوقفة الرمزية السنوية أمام المقبرة المغلقة، على القفز فوق الأسوار ووضع وردة على كل قبر، في ما يشبه اختراق الحصار المضروب على الرفات، تقول أرملة محمد فازة الملقب بـ«الشينوا»، وهو بطل مغربي في الملاكمة دفين المقبرة الموصدة، إن زوجها، البطل الذي حمل راية المغرب في المحافل الدولية، لم يمت بالرصاص بل توفي في أقبية المقاطعة 46 بحي البرنوصي، التي كانت نقطة لتجميع المتظاهرين، حيث نتجت عن الاكتظاظ الرهيب في هذه المقاطعة اختناقات في صفوف المعتقلين، وكان من نتائج ذلك القمع سقوط شهداء أبرياء من جراء الازدحام. قتل البطل المغربي الذي حمل قميص المنتخب في ظروف غامضة، وظلت أسرتاه الصغيرة والكبيرة تبحثان عن نقطة ضوء تقودهما إلى حقيقة الاختفاء، قبل أن تكتشفا المقبرة المغلقة.
تزور الأسرة المكان، بين الفينة والأخرى، وتذرف الدموع أمام أسوار المقبرة، «ليس باليد حيلة، لا يمكن أن ندخل ونترحم على الفقيد، نحن محرومون من هذا الحق». ما ينطبق على أسرة فازة ينطبق على كل من يزور المقبرة ولو مرة في السنة، لتضرب موعدا في تاريخ الذكرى. بينما يصر شقيق الفقيد محمد لعواج على أن «عدم وجود أسماء على المقابر أفظع من مقبرة بلا باب».

قبور بلا شواهد
أبدت جمعية الضحايا مجموعة من الملاحظات حول تفاصيل وحيثيات نبش المقبرة الجماعية وإعادة دفن الرفات، وانتقدت تقرير المجلس، «إن إجمالي حالات القتل خارج القانون التي أسفرت عنها أحداث 20 يونيو 1981، هو 114 حالة، 24 منها ذكرها التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة و50 حالة أخرى ذكرت أسماء شهدائها لأول مرة من قبل لجنة المتابعة، وهي الحالات المكتشفة داخل مقبرتين جماعيتين قادت إليها التحريات داخل ثكنة الوقاية المدنية بالحي المحمدي، أي أن مجموع الرفات المستخرجة والتي تم دفنها في مقابر فردية بالمكان نفسه، هو 74 حالة، وبطرح حالتين دفنتا في مقابر فردية إبان الأحداث الاجتماعية فإن أمكنة دفن 38 حالة تبقى مجهولة ولم تقد إليها لا تحريات هيئة الإنصاف والمصالحة ولا تحريات لجنة المتابعة المنبثقة عن المجلس».
وتساءلت جمعية الضحايا عن «سر قصور تلك التحريات وتهميش عدد من الشهادات التي كانت ستفيد في تحديد مكان دفن هؤلاء الشهداء، وعن مبرر تجاهل 38 روحا بشرية».
وطعن تقرير الجمعية في طرق استخراج رفات ثكنة الوقاية المدنية وكيفية التعرف عليها دون الاعتماد على «الشروط القانونية والعلمية والدينية المطلوبة، وأنه على أساس ذلك أعيد دفنها في قبور فردية وتسليم شواهد الوفاة لذوي حقوق بعض الشهداء».
لم تكلف الجهات المسؤولة نفسها عناء التحري لتحديد هوية الرفات أو استخراج المعطيات الأنثروبولوجية أو التيقن من جدوى إجراء التحليل الجيني، وخلصت إلى طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية:
ما هي الكيفية التي اعتمدها المجلس لإقناع بعض العائلات باستلام شهادات الوفاة؟ ومن قام بتلك المهمة؟ وهل تم احترام الضوابط القانونية والأخلاقية والإنسانية في هذا الصدد؟ وعلى أي أساس سيتم وضع الأسماء على قبورها بشكل صحيح في إطار إعادة تهيئة مقبرة ثكنة الوقاية المدنية؟
«عملية نبش الرفات كانت مجرد شكليات لدر الرماد في العيون، حيث إن هوية الرفات تبقى ولحد اليوم مجهولة، ببساطة لأن المجلس نفسه يعترف بعدم القيام بأية تحاليل جينية أو أنثروبولوجية لتلك الغاية، بدليل أن عملية استخراج الجثث تمت يوم الخميس 9 دجنبر 2005، في حين أن المختبرات العلمية الوطنية الأمنية ذات الاختصاص لم تكن تتوفر في ذلك التاريخ على الخبرة والوسائل اللازمتين لمباشرة هذا النوع من العمليات، وأن بروتوكول التعاون في هذا الإطار بين المجلس ووزارة الداخلية ووزارة العدل وقيادة الدرك الملكي، لم يتم توقيعه إلا بتاريخ 12 فبراير 2008. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عملية استخراج رفات ثكنة الوقاية المدنية لم يكتب لها تحديد أمكنة رفات بقية الشهداء من العدد الإجمالي المعلن عنه»، يضيف سعيد مصرور.

البحث عن موتى بلا قبور
لا يوجد مكتب بالمقبرة ولا قائم على المكان ولا سجل في أقرب مقاطعة يتضمن سجلا بأسماء الموتى، ولا وجود في سجلات مراكز الطب الشرعي والمستشفيات لإشارات تقود إلى معرفة قاطني المقبرة، لذا من الصعب الحسم في أسماء الموتى المدفونين في مقبرة الحزام الكبير، «لا يمكن أن يؤدي البحث إلى نتائج مرضية، فالجميع يعلم أن القوات الأمنية التي كانت تطلق الرصاص على المواطنين، إلى جمع الجرحى والجثث في سيارة الشرطة وشاحنات الجيش، دون التأكد من الهويات والعناوين، بل نكاد نقول، بصفتنا ضحايا وشهودا على تلك الأحداث، إن حالات الوفاة التي تم التعرف على أصحابها كانت أساسا لـ38 حالة استشهد أصحابها خنقا داخل المقاطعة 46 بالبرنوصي، أما أولئك الذين تمكن المواطنون من تهريبهم إلى بيوتهم ليموتوا هناك، تأتي الدوريات الأمنية بعد ذلك لمصادرة جثثهم، أما الآخرون الذين انتشلتهم القوات الأمنية مباشرة من الشوارع فقد تم تسجيلهم جميعا تحت علامة «إكس»، وبالتالي فإن الوصول إلى هوياتهم كان يتطلب مقاربة أكثر عمقا ووقتا وجهدا أكبر من ذلك الذي خصص لهذا الملف.

الترحم على الموتى من نوافذ المكاتب
لأن المقبرة توجد بمحاذاة مركز لتكوين أطر «ليديك»، فإن كثيرا من موظفي هذه المنشأة التكوينية، يترحمون بين الفينة والأخرى على الأموات ضحايا انتفاضة 20 يونيو 1981، منهم من لم يعش تلك الحقبة التاريخية ومنهم من عاش لحظاتها العصيبة، حين يفتح موظفو هذا المرفق التكويني النوافذ تقابلهم رائحة الموت المنبعثة من المقبرة المصادرة، ويرسلون نظراتهم ويشيعون الموتى بدعواتهم وهم يعلمون علم اليقين أن في جوف تربة المكان عشرات الأطفال واليافعين والمسنين الأبرياء الذين ماتوا برصاص قناصة جيء بهم من ثكنات «الكوم» ليحولوا سبتا دافئا إلى سبت أسود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى