الرأي

مقبرة الكلاب

يونس جنوحي

في مكان آخر قد تكون هذه التسمية: «مقبرة الكلاب» سُبة ما. لكنها في مدينة طنجة، مقبرة توجد بالفعل.
أرض منسية كُسر بابها ولم يعد يحرسها إلا الركام المتبقي من بوابتها السابقة. داخلها، قبور صغيرة جدا لكلاب عاشت أفضل أيام حياتها في طنجة الدولية. كلاب دفنت في الستينيات والسبعينيات، وعلى قبورها نقوش فوق الإسمنت بكلمات تعبر عن حب عائلات أجنبية عاشت في طنجة، لكلاب من أجناس مختلفة. آخر قبر أحدث سنة 2020 فقط، في خضم جائحة كورونا وزوبعة الحجر الصحي الأول.
المقبرة تقع في أسفل منطقة جبل الكبير. ويجب أن تكون خبيرا لكي تصل إليها، ما دام ليس هناك أي إشارة تقود إليها.
جبل الكبير الذي كان قبلة للدبلوماسيين الأجانب، وعاش به الأمراء والخلفاء والأعيان، واختلط به ورثة المشاهير مع الأثرياء المغاربة الجدد، والموظفين الناجحين وحتى «المحظوظين». أما قصة المقبرة فبدأت عندما لم يجد هؤلاء الأثرياء مكانا يدفنون فيه أحباءهم من الكلاب التي أخذها الموت منهم. لذلك قرروا أن يتحول المكان المنبسط أسفل جبل الكبير مباشرة، إلى مقبرة رسمية للكلاب، وهكذا بدأت أول الجنائز تصل إليها.
في أيام المقبرة الذهبية، كانت تخصص لها ميزانية سنوية لرعاية عشبها وتزيين القبور، وتأتي العائلات في أعياد ميلاد الكلاب أو مناسبات الذكرى السنوية لوفاتها، ويضع أصحابها الشموع والورود فوق القبور وحتى الصور التذكارية، وينصرفون إلى حياتهم حيث اتخذوا كلابا أخرى تنسيهم مرارة رحيل كلابهم السابقة.
أما اليوم، فمقبرة الكلاب ماتت بدورها، وأصبحت أرضيتها عبارة عن تجمع للأغصان الميتة. أشجار ماتت بدورها، أو شاخت أكثر من اللازم، ولم تعد تزين المكان بقدر ما أصبحت لعنة فوق رؤوس الكلاب المدفونة.
تصلح المقبرة الآن أن تكون مشهدا في فيلم رعب، وليس مقبرة لكلاب عاشت في كنف أسر ميسورة وأخرى عادية من مختلف الجنسيات. بعض القبور القديمة التي رحل أصحابها عن المغرب وتفرقوا في القارات الأخرى، تآكلت الكتابات المدونة فوقها ولم يبق إلا اسم تلك الكلاب. بينما قبور أخرى تعرضت لعامل التعرية. الزمن في النهاية دوّار، حتى بالنسبة للكلاب التي وُلدت في فيلات الأثرياء وربما جابت معهم العالم وركبت معهم البواخر، وأطلت برأسها المشعّر من زجاج السيارة ليلاعبها نسيم بحر طنجة في أيام «العز».
حتى المسؤولون في مدينة طنجة، الذين ينشغلون هذه الأيام بترميم بناياتها العتيقة، غاب عنهم أن يرمموا هذه المقبرة التي يمكن بسهولة أن تسجل من عجائب القرن الماضي. لأن الكلاب المدفونة بها من جنسيات مختلفة وتنتمي لفترات مختلفة أيضا.
ملكة بريطانيا إليزابيث حزنت جدا قبل أيام، وحزنت معها الصحافة والشعب لأن أحد كلابها توفي. بينما خصصت مجلات كثيرة في أمريكا صفحاتها للحديث عن كلب أسرة الرئيس ويومياته داخل البيت الأبيض. الكلب طبعا.
وليس بعيدا أبدا أن تكون مقبرة الكلاب في مدينة طنجة تضم في جوفها جثامين كلاب أرستقراطية للدبلوماسيين الذين عاشوا في المدينة. إذ كان معروفا أيام طنجة الدولية أن بعض أثرياء أوروبا أقاموا ناديا صغيرا لمُلاك الطائرات الصغيرة، وكانوا يركبونها كل يوم سبت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ويطيرون بها من جبل طارق، لينزلوا فوق عشب الغابة الدبلوماسية بعد جولات فوق المدينة، هم وكلابهم. ومنهم من قرروا الاستقرار النهائي في إقامات تطل على المضيق الذي تلتقي عنده قارتان متناقضتان تماما في كل شيء.
هم دفنوا في مقابر فخمة تليق بهم. بينما كلابهم، كانت تملك فعلا حظ الكلاب. إذ تحولت الآن إلى سماد للأشجار الميتة ولم يتبق من قبورها إلا شواهد إسمنتية بالية تذكر بمدينة ماتت هي الأخرى ولم تعد كما كانت في السابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى