الرئيسية

مقدمة تمهيدية للنظر في وجه التراث 1

يعكف الباحث رشيد المومني على مدارسة العديد من القضايا المرتبطة بالتراث والحداثة. ويتناول المومني، في كتاب ينهمك في وضع اللمسات الأخيرة لإخراجه إلى النور، أهم الإشكاليات التي تهمنا جميعا، والمتمحورة حول أسئلة الذات العربية، بما يتفرع عنها من أسئلة تشمل التراث والحداثة، العقل والهوية، وغيرها من الإشكاليات المحايثة. الكتاب كما سيلاحظ القارئ، من خلال الحلقات التي ننشرها له متسلسلة في أعداد الجريدة بـ«فسحة الصيف»، عبارة عن تأملات هي خلاصة سنوات طويلة من معايشة الهم العربي، سواء على المستوى الحياتي أو المعرفي، كان الباحث خلالها حريصا على التخلص من الصرامة الأكاديمية، التي قد تنفر القارئ العادي من التفاعل معه.
لذا فقد اخترنا في هيأة تحرير جريدة «الأخبار» أن نضع فقرات الكتاب قبل صدوره بين يدي القارئ، بعدما اقترحه الكاتب رشيد المومني لصفحات الجريدة في الفترة الصيفية، ونتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم ما يثير تفاعله مع الأفكار التي يبسطها حول العديد من القضايا، التي يعد الاختلاف من طبيعتها ومصدر إثراء للعديد من المقاربات والمناهج، التي تناولت مفاهيم وإشكاليات الحداثة بالبحث والتحليل.

إن أهم اكتشاف تفوقت فيه الثقافة العربية الإسلامية على نفسها، ومنذ العقود الأولى من القرن الفارط، هو اقتناعها التام والمطلق، بمأساوية تخلفها الثقافي والحضاري. اقتناع، يفيد ضمنيا تخلفها في كافة المجالات المعرفية والمجتمعية، حيث يمكن اعتبار هذا الاقتناع، مكسبا على درجة كبيرة من الأهمية، خاصة وأنه تحول إلى إطار رسمي يلتئم فيه شمل النخب المثقفة، محفوفة بأتباعها ومريديها. وكما هو معلوم، فإن قطب الرحى الأكثر هيمنة في هذه المعضلة، هو النزال السرمدي القائم بين الحداثة والتراث، المستقطب لقدر هائل من النقاشات المهيمنة في مشهدنا الثقافي. حيث يتتالى بموجبه تدشين المزيد من الأوراش التي تتحول تباعا إلى معسكرات. فيها تتأجج نيران القطائع والتحالفات، بكل تمظهراتها ومرجعياتها.

محاولات رأب الصدع
فثمة تراثيون يطالبون برؤوس حداثيين، وحداثيون ينادون بقطع دابر كل ما هو تراثي، فيما تتطلع دعوات توفيقية إلى رأب الصدع، بإصلاح ذات البين. وفي غضون ذلك، تتدفق أنهار طويلة ومتشابكة من الحبر، دون أن تهتدي إلى مصب محدد تسترجع فيه أنفاسها، وتعيد فيه تقييم مساراتها، بتجرد تام عن كل تعصب مجاني، يفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية المتنورة. ومن المؤكد أن هذا التجرد سوف يفسح المجال لتفاعل الإبدالات المعرفية المنفتحة على ممكناتها، كما سيساهم في تبين المسالك الموضوعية، المؤهلة بفعل قوتها الإجرائية لتحقيق إمكانية الرؤية والإنصات. ونخص في هذا السياق المقاربات التراثية، التي يقتضي معالجتها توظيف آليات نظرية متعددة الاختصاصات، باعتبار أن جوهر التراث، يحيلنا عمليا على فلسفة الأصل، بما هي فلسفة مؤطرة بسؤال الزمن. وغني عن القول إن استحضار هذا السؤال، يعنى بشكل مباشر، استحضار القلق البشري المعبر عنه منذ العصور القديمة، بشتى الطرائق المادية، الروحية والإبداعية أو الفنية، من أجل الكشف عن أسرار الظواهر، وتفسيرها. لا فرق في ذلك بين نماذجها البدائية، أو المتقدمة. أي بين تلك التي تأخذ شكل طقوس ملازمة لهويات الشعوب والأمم، وبين تلك المعبر عنها بصيغ جمالية موغلة في فردانيتها. فمن صلب هذا القلق، تنهض المواقف المتنافرة والمتنابذة التي تتخذها الحداثة من المسألة التراثية. حيث اليأس التام من تقبل فكرة الماضي، يفضي حتما إلى تبني توجه مستقبلي جد متطرف، يتعامل مع التراث بعدوانية يؤجج لهيبها هاجس تصفية الحساب مع سلطة متجبرة تحمل اسم الماضي، وذلك بالسعي إلى محوها تماما من الذاكرة، ولو على سبيل الوهم. وهو رد فعل طبيعي لمن تضيق صدورهم بالالتباسات الدلالية، تجاه كل ما يتعذر فهمه. ذلك أن دلالة المحو هنا، تفيد انتقام العاجز من الشيء المتمنع على فهمه. وبالتالي تكون الدعوة إلى تبني الرؤية المستقبلية، بمثابة قفزة «مبررة!» باتجاه الفراغ، وهروب فكري إلى أمام ليس أقل غموضا مما تركناه خلفنا. طبعا، نحن لا نجادل في أهمية الرؤية المستقبلية، المندرجة ضمن اهتماماتنا منذ مرحلة جد مبكرة من مسارنا الفكري والإبداعي، لأنها من وجهة نظرنا التي عبرنا عنها في سياقات سابقة، أفق معرفي مقنن بشروطه وحيثياته، التي يؤدي استبعادها إلى تسطيحها، واختزالها في بعض الفتوحات التقنية والعلمية، على أساس رؤية منبهرة بسحرية التحديث إلى أقصى حدود السذاجة.
تأسيسا على ذلك، وضمن هذا المنظور، تصبح الحداثة المغلولة بمثابة الترجمة الرمزية لأوهام التخلص من جبروت الزمن الماضي ومن رهبوته. بما هو جمع أصول، وجمع تراث.
وبتعبير آخر، هي نوع من الإخصاء المجاني الممارس على الزمن. ما يؤدي إلى إحداث عطب مزمن في الرؤية البشرية للكينونة. وهي بالمناسبة رؤية تستمد هويتها من عنف ذلك التشظي المهول، القائم بين ثلاث وحدات زمنية، تتتالى من حيث الظاهر في صيغة الماضي، الحاضر، والماضي. إلا أن هذا التتالي يصبح معرضا لفقدان توازنه، حينما يتم اختراقه بشريا بالطاقة الذهنية والفكرية التي يمتلكها الكائن، حيث تحدث تلك الإبدالات المربكة، والتي تتبادل هذه الوحدات مواقعها ودلالاتها على ضوئها.

الاستثناء البشري
بقليل من الانزياح الفكري والشعوري، يمكن تغييب كل من الماضي والمستقبل عن دائرة وجودنا، حيث لا يمكث فينا وحولنا، سوى الحاضر الذي تعيش الذات على صراطه ملحمتها البشرية، عبر التواتر الآلي لثنائية الإبقاء والإلقاء. أي الإبقاء الدائم على جسد الكائن في قلب «الآن» بوصفه زمنا حاضرا، على حساب الإلقاء المباشر، بكل ما تفرزه معايشته للواقع من تداعيات، ذات طبيعة حية أو قاتلة، في بوتقة الماضي.
إنها ملحمة الاستحالة العظمى. استحالة العودة الفيزيولوجية للجسد إلى اللحظة التي غادرها مكرها أو طواعية، بفعل انحباسه في قمقم حاضر يحكم قبضته الفولاذية عليه. وكما هو واضح فإن القول في هذا السياق بحاضر الجسد، يخص أساسا بعده المادي. حيث تتهيأ الأبعاد الأخرى للإعلان عن إعجازها البشري، والمتمثل على أقل تقدير، في الذاكرة والمخيلة. وتركيزنا هنا على البعد المادي للجسد – مؤطرا بانتمائه الملموس للحاضر- يعود إلى احتفائنا النظري بالقيمة الرمزية التي تحتلها الحركية الملموسة/ المادية للأشياء، سواء بالنسبة إلى الدائرة البشرية، أو لدائرة الوجود ككل. وهذه الحركية مؤهلة لأن تمدنا بأدوات جديدة، نهتدي بها إلى مسالك جديدة، تسعفنا في قراءة الظواهر والتعرف على ما تطرحه من أسئلة. لكن امتياز العمق المادي الذي يتمتع به الحاضر، لا يمكن بحال أن ينفي تفاعلات دوائر الماضي، التي تستمد سلطتها من سلطة الذاكرة والمخيلة، اللتين تتحقق بهما الخصوصية الفعلية لهوية الذات البشرية. ذلك أنهما معا، الجناحان الرمزيان اللذان يتمكن بهما الجسد من تجاوز دائرة حاضره للسفر باتجاه الماضي أو المستقبل. باعتبار أن المكون المادي لدى الذات البشرية، يختلف جذريا عن المكون نفسه لدى غيرها من الذوات. ومن المؤكد أن الاستثناء البشري، يكمن في هذه البنية المادية المزودة ببطارية المخيلة والذاكرة التي يمتلك الزمن بموجبهما أبعاده المتعددة. مع العلم أنه بفضل خاصية التعدد هاته، يستطيع الكائن أن يتعرف على أبعاده، في علاقتها القلقة والمتوترة بالأبعاد اللامتناهية للوجود.
إن الحاضر الذي أنا الآن بصدد معايشته، هو امتداد طبيعي لسلسلة طويلة من حركية حاضر لا يكف عن تأكيد مبدأ اختلافه. والذي هو الآن في حكم الزمن الماضي. ومكان تواجدي الحالي، هو خلاصة قرون طويلة من التخريب والتعمير، خلاصة انتكاسات، حرائق وانبعاثات. كما أن الكائنات المحيطة بي، تحيل على الأزمنة القريبة أو البعيدة التي خرجت فيها من رحم العدم إلى رحابة الوجود. وكل المنجزات التي هي في حوزتك الآن، أو تلك التي لا أمل لك في امتلاكها، خلاصة تطورات وتحولات مجتمعية ومعرفية تميزت بها الأزمنة السالفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى