
بالأمس امتلأت المنصات العربية بعبارات الفخر والتهنئة بفوز زهران ممداني كأول عمدة مسلم لمدينة نيويورك، وكأنّ الحدث وقع في الرباط أو القاهرة أو إسلام آباد لا في أقصى الغرب. فجأة، تحوّل الرجل إلى بطل رمزي للعالم الإسلامي، رغم أنّه لم يرفع أي شعار ديني، ولم يتحدث باسم أمة أو طائفة، بل باسم مواطن يرى في السياسة أداة لخدمة الناس لا ساحة للمقدّس. المفارقة أن هذا الفرح العربي، الذي يبدو في ظاهره تضامناً حضارياً، يخفي في باطنه شيئاً من المرارة، مرارة الشعور بأنّ ما يتحقق في الغرب من تسامح وعدالة ومواطنة لا يزال عندنا حلماً مؤجلاً.
نيويورك ليست مدينة عادية. إنها أكثر من مجرد مزيج من ناطحات السحاب والمهاجرين والسينما والموسيقى. إنها المختبر التاريخي لفكرة «التعايش رغم الاختلاف». المدينة التي احتضنت الشعر والفن والفكر، وعاشت فترات من العنف والتمييز، لكنها عرفت كيف تُعيد إنتاج ذاتها عبر القبول بالتنوع. في هذه المدينة، التي لطالما كانت مرآة لوجوه البشرية كلها، يصل اليوم رجل مسلم، من أصول أوغندية وهندية، إلى منصب العمدة. رمزية الحدث أعمق من مجرد فوز انتخابي، إنها لحظة اختبار لذاكرة مدينةٍ عاشت الخوف والريبة من الآخر، ثم استطاعت أن تتصالح مع ذاتها عبر الديمقراطية.
لكن ما الذي يعنيه هذا لنا نحن العرب؟ هل نحتفي بممداني لأننا نرى فيه صورة منّا نجحت في مكانٍ فشلنا فيه؟ أم لأننا نحاول أن نعوّض إحباطنا المزمن بالانتماء الرمزي لأي نجاح يصدر عن أبناء ثقافتنا خارج حدودها؟ فالرجل لم ينتصر باسم الإسلام ولا العروبة، بل باسم قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة. ومع ذلك، يسارع كثيرون إلى تبنّيه كرمز ديني، في حين أنّنا لو وُضعنا أمامه كناخبين في أي مدينة عربية، لبدأنا بتفتيش سيرته: هل هو سني أم شيعي؟ محافظ أم تقدمي؟ ما رأيه في الدين والمجتمع والإجهاض والتعدد؟ ثم تبدأ العواصف الأخلاقية، وتنتهي القصة قبل أن تبدأ.
لو ترشح ممداني في مدينة عربية ذات غالبية سنية، وكان يحمل مواقفه كما هي – اشتراكي، داعم للمساواة بين الفئات، مدافع عن حقوق الأقليات – فهل كانت صناديق الاقتراع ستمنحه فرصة؟ أم كانت الكراهية ستتكفّل بإسكات صوته قبل أن يُكمل حملته؟ نحن نعيش في مجتمعات تُسقط الأخلاق على السياسة بطريقة انتقائية: نريد السياسي أن يكون متديناً بلا اجتهاد، طاهراً بلا تفكير، مؤمناً من دون أن يُقلقنا بأسئلة الإصلاح. وحين يظهر سياسي مختلف، لا نحاوره، بل نحاكمه.
الفارق بين نيويورك والعالم العربي ليس في الثروة ولا في المؤسسات، بل في العقلية التي تنظر إلى الإنسان كفردٍ قبل أن تصنفه كهوية. في نيويورك، تُقاس الكفاءة بقدرة المرشح على إدارة المدينة، بينما عندنا تُقاس بمقدار توافقه مع المزاج الطائفي أو الشعبي. هناك، يُنتخب المواطن لأنه يمتلك رؤية، وهنا يُقصى لأنه يمتلك رأياً. التعايش في الغرب لم يهبط من السماء، بل هو ثمرة قرون من الصراع والنقد الذاتي والتجربة. أما نحن، فما زلنا نعيش تحت وطأة سؤال الهوية، ونخاف من المختلف وكأنه تهديد لا إمكان.
التاريخ الأمريكي نفسه مليء بالتناقضات. فقد كانت نيويورك في القرن التاسع عشر مسرحاً للتمييز ضد المهاجرين من أيرلندا وإيطاليا واليهود، لكنها تجاوزت ذلك عبر ثقافة الاحتجاج والفن والتعليم. أدركت أن التعدد ليس خطراً بل مصدر ثراء. أما نحن، فما زلنا نُعيد إنتاج الخوف ذاته بأشكال جديدة، نُبدّل فقط أسماء الضحايا والجلادين. لم نصل بعد إلى تلك المرحلة التي نحتكم فيها إلى العقد الاجتماعي لا إلى الغريزة الجماعية.
ربما ما يميز زهران ممداني حقاً ليس دينه، بل روحه السياسية الجديدة. شاب يتحدث بلغة مرحة ذكية، يعرف كيف يستخدم المنصات الرقمية كما يعرف كيف يصوغ خطاباً سياسياً عصرياً. يؤمن بأن السياسة ليست جموداً ولا خطابة، بل مشاركة وجرأة على طرح الأسئلة. في المقابل، ما زالت السياسة في العالم العربي تُعامل كواجب ثقيل أو كعبء سلطوي، يُمارس بملامح عابسة وخطاب متجهّم. نحتاج فعلاً إلى سياسيين شباب يتقنون لغة الجيل، يجمعون بين الواقعية والطموح، ويؤمنون بأن الإصلاح لا يأتي من الخوف، بل من الثقة.
زهران ممداني ليس ظاهرة دينية بل دلالة حضارية. إنّه شاهد على قدرة المجتمعات الحية على التحوّل، على تجاوز عقد الماضي عبر فتح الباب أمام من يمثل المستقبل. أما نحن، فما زلنا نحرس الماضي كأنه هوية، ونخاف من المستقبل كأنه بدعة. لذلك نحتفي بفوزه وكأنه انتصار لنا، بينما هو في الحقيقة مرآة تعكس هشاشتنا السياسية.
الاحتفال الحقيقي لا يكون حين يفوز مسلم في نيويورك، بل حين يفوز المختلف في أي مدينة عربية دون أن يُسأل عن طائفته أو فكره أو مظهره. يومها فقط يمكن أن نقول إننا فهمنا معنى المواطنة، وإننا تجاوزنا الخوف المزمن من التعدد. في انتظار ذلك، دعونا نشاهد كيف سيحكم مسلم شيعي اثنا عشري اشتراكي وول ستريت.





