شوف تشوف

الرأي

هل هي العصور الوسطى المظلمة؟ (2)

بقلم: خالص جلبي
المجتمع العربي اليوم يعاني من حزمة من عشرة أمراض تشكل حلقة تتبادل التأثير الخبيث هي: 1- إجازة الغدر، 2- تأليه القوة، 3- احتقار العلم، 4- تبرئة الذات واتهام الآخرين، 5- الإيمان بالخرافات، 6- تقديس السلف، 7- ظن أن التراث البشري يغني عن الواقع، 8- الاهتمام بفضائل الجهاد من غير معرفة بشروط الجهاد، 9- رفض الديموقراطية مع أنها أقرب إلى الرشد، 10- ظن أن الأحكام لا تتغير بتغير الأزمان، أي كأن العدل لا يمكن أن ينمو أكثر فأكثر.
ولشرح هذه الأمراض المستوطنة عندنا، نقول إن بعضنا مثلا يحتفل في (أعياد الغدر) وجعلوها (مناسبات ثورية)، وهي ذكريات الانقلابات في الظلام وسرقة الشرعية من الأمة. وأما (تأليه القوة)، فهو مرض قديم منذ العصر الأموي. أما (احتقار العلم) فشاهده عقم الإنتاج العلمي وشح التآليف والدوريات. وبالنسبة إلى (تبرئة الذات)، فالعرب يرون أن مشكلتهم هي إسرائيل وأمريكا، ولا يخطر في بالهم أن يراجعوا أنفسهم ليطرحوا السؤال المزعج، ما الذي يسبب المرض؟ هل هو وجود الجرثوم، أم انهيار الجهاز المناعي؟ أما (الإيمان بالخرافات) فالجو عابق بالخرافة ينتظر الزعيم المخلص، وهناك من يوزع البطاقات الانتخابية مثل الحروز، ويرقص الأتباع طربا ليس على ضرب الصنج والطبل، بل الزعيق: «بالروح بالدم نفديك إلى الأبد»، وهم يترنحون في مظاهرات لو رآها الألمان في فرانكفورت، لظنوا أنها مجموعة ضلت طريقها من مصح الأمراض العقلية، فطلبوا تدخل البوليس لإيداعهم خلف القضبان وإراحة العباد منهم.
المشكلة أن الواقع أسوأ بدرجات من هذا الوصف،
ولكن كل ما ذكرناه لا يعني أكثر من وصف موجع ولا يتقدم باتجاه الحل، ويبقى السؤال: لماذا يحدث ما يحدث؟ لماذا تعيد الثقافة إنتاج نفسها على هذا الشكل المريض بدون تطور يذكر؟ ماهو سر هذا الاستعصاء الخبيث في الثقافة العربية الإسلامية؟ ما هو نوع البرمجة الذهنية عند الفرد العربي؟ ولماذا لا يدخل العصر؟
المواطن العربي كفرد مادة خام قابلة للتصنيع في أي ماكينة اجتماعية، شهادتنا في ذلك أبناؤنا الذين يذهبون إلى الغرب؛ فينخرطون في الماكينة الغربية فيبدعون ويلمعون؛ فإذا عادوا إلى الوطن انكمشوا مثل القماش السيئ بعد الغسيل، في شهادة عن بيئة عقيمة وجو خانق، والسؤال الموجع لماذا؟
إذا كان كل مواطن يغلق بابه على نفسه، ويعيش مع نفسه وعياله، فقد تحول إلى ذرة رمل تائهة، غير متماسكة مع غيرها، في صحراء تضرب فيها العواصف في مؤشر خطير على انقضاء أجل الأمة أو يكاد.
نحن نمدح أنفسنا إلى حد القرف، ونكذب بأشد من أشعب حتى نصدق أنفسنا؛ فذاتنا مبرأة من العيوب فوق الخطأ ودون النقد.
إن عدم تحمل النقد، وانعدام آلية المراجعة، واتهام الآخرين بقصورنا، وعزو فشلنا إليهم تبرير غير مجدي، وتورط في حلف مع الشيطان في طريق الفحشاء والفقر لا عودة منه. أما تحرير آلية النقد الذاتي، وتنشيط مفهوم التوبة، فيعنيان السير في خط آدم، الذي تلقى من ربه كلمات فتاب عليه. لقد تورط الشيطان في ثلاثة أخطاء قاتلة: حين نسب خطأه إلى غيره ولم يراجع نفسه، ثم اعتز بمصدره العرقي، وأخطأ ثالثا في الفيزياء حين ظن أن الطاقة أفضل من المادة، والفيزياء تعرف اليوم أن الطاقة والمادة وجهان لحقيقة واحدة.
العرب يعيشون في عصر لم يولدوا فيه، أو ولدوا في عصر لا ينتسبون إليه، تشكل الحداثة لهم الجن الأزرق المكرر في قصة سندباد البحري، عندما اختلط عليه الوهم مع الحقيقة. نحن نعيش نشوة الماضي كالسكران المترنح في عصر لم نتكيف مع إحداثياته؛ فلا نعرف ماذا جرى في العالم، ولا نمشي في الأرض لننظر كيف بدأ خلق العالم الجديد. نحن لا ننتسب إلى العصر بسبب بسيط: أننا لم نشارك في بنائه. نحن استهلكنا ما عندنا من أدوات معرفية؛ فما عندكم ينفد وما عند الله باق. نحن اليوم نشتري الحضارة ولا نبنيها، وأهم شروطها ليس الإنتاج التكنولوجي، بل الإنتاج المعرفي. نحن نعيد إنتاج ثقافتنا وهناك الكثير من الأفكار التي تشكل الخريطة الذهنية عندنا، هي أفكار ميتة جدير بها أن تودع إلى المقبرة في جنازة خاشعة تليق بها. رؤوسنا تعاني من دوار مخيف مع إعصار الحداثة، وشكلنا في العالم لا يسر الناظرين، من الجزائر إلى أفغانستان. ليس أبغض على النفس من الانتقاد، ولكن النقد الذاتي وضع ديناميكي حي متطور في إنضاج الإنسان. إنه أداة نفض مستمرة للوعي كي يبقى نشيطا حيا. وهي تطهير أخلاقي في مستوى الفرد، كما أنها بناء أسرة متماسكة، والعيش في جو جماعة صحي، وتطهير الوسط السياسي من الإرهاب والتسلط، فضلا عن بناء علاقات حسنة بين الجماعات البشرية. المسلمون اليوم يخلطون بين ذواتهم وبين الإسلام، ويعتبرون أنفسهم أنهم استثناء للقانون البشري، في تعال أحمق يدفعون ثمنه يوميا. إنها كارثة عندما يختلط الإلهي بالبشري. الإسلام مبدأ من لدن حكيم عليم، والمسلمون بشر يخطئون ويصيبون، ويقتربون ويبتعدون، أو يصعدون ويهوون إلى أسفل سافلين. عندما نعطل آلية النقد الذاتي نعطل الوعي، ونزيل أي إمكانية تصحيح الخطأ والنمو للمستقبل، وهي كارثة ونحن على كل حال في وضع أكبر من الكارثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى