حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةحوارسياسية

إدريس الكراوي يدعو إلى إعادة التفكير في السياسات العمومية الموجهة للشباب

قال لـ"الأخبار" إن الشباب ليسوا كتلة واحدة بل فئات متعددة بتطلعات متباينة

في وقت يتعاظم فيه حضور الشباب في المشهد المجتمعي، وتتصاعد معه التحديات التي تواجههم في مختلف أنحاء العالم، يفتح الأستاذ إدريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة ومنتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي، عدسة التحليل على التحولات العميقة التي تطبع واقع هذه الفئة، وعلى الرهانات المطروحة أمام المؤسسات لصون مكانتها وتأهيل أدوارها في المستقبل.

في هذا الحوار، يقدم الكراوي قراءة شمولية للسمات البارزة التي تميز شباب اليوم، مبرزا كيف أنهم يختلفون جذرياً عن الأجيال السابقة من حيث أنماط التفكير والعيش والانخراط في الشأن العام. كما يتوقف صاحب كتاب “أن تكون شابا في عالم اليوم”، عند المفارقة الصارخة التي يعيشها شباب اليوم بين وفرة الإمكانات وشحّ الأحلام، بين الطموح المشروع وانسداد الأفق، ليفضح في المقابل عدداً من الأفكار المسبقة التي تلاحق هذه الفئة، من قبيل عزوفها عن العمل السياسي أو ميلها للتمرد والعنف.

ويؤكد الكراوي في حديثه لـ”الأخبار” أن الحديث عن “الشباب” بصيغة المفرد هو اختزال مخلّ، داعياً إلى الاعتراف بتعدد فئاتهم وتنوع مساراتهم ومجالات انخراطهم، سواء في ريادة الأعمال، أو الفعل الجمعوي، أو الحقل السياسي، أو حتى في مجالات الإبداع والروحانيات، دون إغفال الفئة الواسعة من الشباب المقصيين والهشّين، الذين يعيشون على هامش المجتمع في ظل البطالة والفقر وغياب الأفق.

في هذا الحوار، دعوة صريحة لإعادة التفكير في السياسات العمومية الموجهة للشباب، بعين تراعي واقعهم المركب وتؤمن بإمكاناتهم كمحرك للتغيير، لا كمصدر للمخاطر.

 

أجرى الحوار: النعمان اليعلاوي

 

 

ماهي السمات البارزة لشباب العالم اليوم؟

إن شباب العالم اليوم هُم أبناءُ عصرِهم بامتياز، إذ يختلفون عن الأجيال السابقة في كل مناحي حياتهم، سواء في طريقة التفكير، أو العمل، أو الترفيه، أو الزواج والطلاق، أو نمط الاحتجاج أو ممارسة السياسة، بل إنهم مختلفون حتى فيما يرسمونه من الأحلام. كما أن لهم حاجيات وانشغالات ومشاكل وانتظارات وتطلعات وأولويات تعكس خصوصيات السياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمجالية التي يعيشون ويشقون طريق حياتهم في ظلها.

من جهة أخرى، تعاني فئات عريضة من هؤلاء الشباب من خصاص في الأحلام والطموح والأمل في المستقبل. وهو خصاص يعكس ما يساورهم من مخاوف وقلق وما يعتريهم من إحباط وحرمان، ناشئ عن عدم رضاهم عن ظروف عيشهم وشعورهم بالاستياء وبأنه لا يتم الإنصات إليهم بما يكفي، ولا يتم إشراكهم في اتخاذ القرار ولا مراعاة حاجياتهم بالقدر الكافي في وضع السياسات العمومية.

ولهذا الواقع انعكاس مباشر على أبرز القيم الاجتماعية والثقافية التي يقوم عليها بناء لحمة الرابط الاجتماعي وآصرة العيش المشترك، وتحسين الأداء العام للبلدان، وضمان متانة المؤسسات التي تنظم حياة الشباب داخل المجتمع، لا سيما المدرسة والأسرة.

كما أن لهذا الوضع انعكاسات على هيئات حكامة وتقنين الأنظمة الاجتماعية والسياسية ببلدانهم والنماذج التنموية المعتمدة بها. ويتعلق الأمر بشكل خاص بقيم المواطنة والمسؤولية وبذل الجهد والتضحية والتضامن والتسامح وقبول الاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري والديني.

فهو وضع يرهن ثقة الشباب في مؤسسات بلدانهم ومؤسسات العالم، كما يرهن انخراطهم في التغيير وتَمَلُّكَهُم للنماذج التنموية الجديدة المنشودة ومشاركتهم في بلورتها، ومن ثمة يرهن نظرتهم للمستقبل.

 

هل هذا ما يفسر بعض الأفكار المسبقة حول الشباب؟

إن دراسة الإشكاليات والقضايا التي يثيرها موضوع الشباب، مع الاستعانة بتقييم مقارن للسياسات العمومية المعتمدة على الصعيد العالمي في مجال الشباب، تكشف عن وجود العديد من الأحكام المسبقة حول هذه الفئة، كما تُفْصِحُ عن تنامي نوع من الخَلْطٍ في ما يتعلق بالسياسات العمومية الخاصة بالشباب. وغالبا ما تنصب هذه الأحكام المسبقة على عزوف الشباب عن العمل السياسي، وضعف ثقتهم في المؤسسات، لا سيما الدولة والأحزاب السياسية، ووضعهم البنيات المجتمعية التي تضطلع بتنظيم الحياة في المجتمع مثل الأسرة والمدرسة موضع التساؤل، وكذا رفضهم المشاركة في تدبير الشأن العام، وميلهم إلى الاحتجاج والتمرد والعنف.

وإذا كانت هذه التوصيفات تعكس إلى حد بعيد جانبا من الواقع المعاش، إلا أنه لا يمكن البتة تعميمها وجعلها ملازمة لكل الشباب على وجه الإطلاق. ذلك أن مجال الشباب هو مجال يتسم بطابعه المعقد والمركب، حيث إن الملاحظة التجريبية لهذا الحقل، تبرز أننا لسنا حيال “فئة شابة” واحدة منسجمة الخصائص، وإنما نحن أمام “فئات شابة”، أي شباب متعددون يتطورون في سياقات اجتماعية وأسرية ومجالية شديدة الاختلاف. وهي سياقات تحدد الخصائص المميزة للشباب وتملي عليهم خيارات وسلوكيات معينة وتفرض عليهم واقعا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ومؤسساتيا. هكذا نجد أن المجتمع الواحد يَضُمُّ فئاتٍ متعددة ومتنوعة من الشباب:

شباب اختاروا المبادرة الحرة وريادة الأعمال كسبيل للاندماج الذاتي في الحياة العملية، وبالتالي كوسيلة للمساهمة في المجهود الوطني الرامي إلى خلق الثروة؛

شباب اختاروا العمل المدني في إطار منظمات غير حكومية منبثقة عن المجتمع المدني، بغية إعطاء معنى لانخراطهم المواطن وتثمينه، وذلك من خلال المشاركة في مبادرات للتضامن الاجتماعي، والدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية البيئة و/أو مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة (الأشخاص في وضعية إعاقة، الأطفال الصغار المُهمَلين، النساء ربَّات الأسر في وضعية هشة، الأشخاص المسنون، المهاجرون في أوضاع غير نظامية)؛

شباب اختاروا الانضمام إلى حزب سياسي أو منظمة نقابية أو مهنية كطريقة لتجسيد انخراطهم في حياة المجتمع وممارسة سلطة التأثير في مستقبل المؤسسات التي ينتمون إليها وإسماع صوتهم في مسلسل تشكيل المشروع المجتمعي الذي يطمحون إليه؛

وفئة أخرى من الشباب اختاروا الإبداع بشتى مجالاته المتنوعة، سواء في ميادين الثقافة، الفن، العلوم، الموسيقى، فنون الطبخ، الأزياء أو الرياضة، كشكل من أشكال التعبير عن مواهبهم وعن انتمائهم للمجتمع، إذ وجدوا في الإبداع الإطار الملائم للتطور والتفتح والارتقاء الذاتي، ومن ثم الإطار الأمثل للمساهمة في تعزيز الرأسمال الوطني غير المادي.

وعلى مستوى آخر، هناك شباب اختاروا الممارسة الدينية والروحانية، بحثا عن إجابات لتساؤلاتهم الوجودية، وقلقهم ومخاوفهم، وآمالهم.

وأخيراً، هناك الشباب المَقصيُّون الذين يعيشون على هامش المجتمع بسبب الفقر المدقع، والبطالة المزمنة، ومختلف أشكال الهشاشة. وتشكل هذه الفئة أكبر نسبة من الشباب، إذ يوجدون في جميع المناطق سواء الحضرية أو شبه الحضرية أو القروية، وينتمون إلى الكثير من العائلات في جميع أنحاء العالم. وتتولد عن الوضعية التي يعيشها هؤلاء الشباب جملة من المواقف والسلوكيات، على رأسها استهلاك المخدرات ، والاتجار في الممنوعات بكل أنواعها وأشكال العنف والتطرف.

 

ماهي أهم التحولات التي يعرفها الحقل الشبابي اليوم؟

ثمة تحولات جديدة وبالغة الأهمية باتت تؤثر على جميع هذه الفئات من الشباب. ذلك أنهم أضحوا يتطورون في عالم منفتح ومعولم بشكل متزايد، ويعيشون في ظل سياقات وطنية تتسم بتنامي وَقْعِ الثورة الرقمية. ويوفر هذا الواقع الجديد لشباب اليوم إمكانيات هائلة للتعبير الحر عن مشاكلهم وبواعث قلقهم، ولكن أيضاً عن احتياجاتهم وانتظاراتهم وتطلعاتهم. وبفضل الثورة الرقمية، أصبحت لديهم إمكانيات أكبر للانتظام في إطار شبكات والعمل التعاوني مع نظرائهم، كما عززت هذه التكنولوجيا من استقلاليتهم إزاء جميع المؤسسات التي تنظم الحياة في المجتمع، وعلى رأسها المدرسة والأسرة ومؤسسات الدولة والشبكات الاجتماعية التقليدية. وهو الأمر الذي يجعل منهم فاعلين قائمي الذات في المجتمع، يتمتعون بقوة فردية وجماعية حقيقية ومُؤثرة، لكنها قد تكون إما قوة بناءة ومعززة للإبداع أو مُدَمِّرَة.

لكن، وعلى الرغم من الطابع المركب لإشكاليات وقضايا الشباب، وبغض النظر عن الوزن الديمغرافي لكل فئة من فئات الشباب السالفة الذكر، فمن المؤكد أنه عندما يتم إرساء سياسات عمومية في مجال الشباب تتسم بالجدية والمصداقية ويقوم على إعمالها مسؤولون جِدِّيُّون ومؤَهَّلون ويَتَحَلَّونَ بالنزاهة والالتزام بتحقيق الصالح العام، فإن الشباب ينخرطون في تلك السياسات ويتملكونها بل ويصبحون فاعلين رئيسيين في تنفيذها. لذلك، ينبغي على الدول والمجتمعات التي تعيش فيها هذه الفئات من الشباب الانكباب بشكل جدي على وضع أنسب السبل وأكثرها ملاءمة لتحقيق إدماجهم في مجتمعاتهم.

غير أنه، لكي تكون سبل إدماج الشباب ناجعة، فإنه يتعين عليها الانطلاق بشكل قبلي من فكرة أساسية مفادها : أننا اليوم إزاء جيل جديد من الشباب، واعٍ ومُتَطَلَّب، وهو نتاج ديناميات مجتمعية وطنية تندرج في سياق عالمي يتميز بالتوسع المتسارع لفضاءات الحرية، والاستقلالية في التعبير عن هذه الحرية، وتطور الأنترنت، والولوج إلى عدد كبير من القنوات الفضائية، وكذا بروز وتطور نوع جديد من المطالب، مثل الحق في العدالة والكرامة والحماية الاجتماعية الشاملة والعمل اللائق والثقافة والترفيه والعيش في بيئة سليمة والمشاركة السياسية.

ولذلك، ينبغي أن تعمل المجتمعات المعاصرة على التكيف مع هذا الوضع الجديد، كما أن الدول مدعوة إلى وضع سياسات عمومية مُوَجَّهَةٍ للشباب تكون مواكبة ومستجيبة للجيل الجديد من المطالب المعبر عنها من لدن هذه الفئات الجديدة من الشباب. وبعبارة أخرى، يجب على الدول والمجتمعات أن تغير جذريا من الطرق والآليات التي تعتمدها في مجال إدماج الشباب، وذلك من خلال وضع استراتيجيات خاصة بالشباب ينفذها فاعلون ذوو مصداقية ويمتلكون الكفاءة اللازمة، على أن ينكبوا على تنفيذ مبادرات وتدابير واضحة ومحددة بشكل أفضل، وبرامج تستهدف المستفيدين بشكل أدق، مع توفير تمويلات مهمة وكافية. وينبغي أن تكون الأهداف المسطرة موضوع تشاور وتقاسم بين الأطراف المعنية، وأن تجعل الشباب في صلب اهتماماتها، حتى يجدوا ضالتهم فيها وينخرطون في إنجاحها.

لذلك، يجب أن يكون العرض الذي تقدمه السياسات العمومية في هذا المضمار متنوعا ومختلفا ومتناسبا حسب فئات الشباب وكذا خصوصيات مختلف المجالات الترابية. ومن ثم، يجب أن يتم توظيف جميع أشكال الإدماج الممكنة، كالإدماج من خلال الجانب الاقتصادي، والإدماج عن طريق التكوين والثقافة والفنون والعمل الاجتماعي والرياضة ومهن التنمية المستدامة. كما يتعين أن يتسم هذا العرض بالبعد المندمج بدل القطاعي، والطابع الترابي بدل المركزي.

ونظرا لكون مسألة الشباب تتسم بطابعها العرضاني، فإنه من المستحسن بل من الضروري، الحرص على تجنب إلقاء عبء تدبيرها على عاتق فاعل واحد، أي الدولة أو الأسرة أو المدرسة. ذلك أن مجال الطفولة المبكرة والشباب هو مجال المسؤولية الجماعية والمشتركة بامتياز، حيث تتفاعل فيه، أدوار الدولة والأسرة والمدرسة والمقاولة والحزب السياسي والمنظمة النقابية والفاعلين في المجتمع المدني والمثقفين ووسائل الإعلام والجماعات الترابية. لذلك، فإن هذه المقاربة الجماعية والتعددية هي الكفيلة لوحدها بتقديم إجابات مستدامة للأسباب العميقة لمشاكل الشباب.

 

ماهي الأسباب الكامنة وراء شعور الاستياء لدى الشباب وعدم رضاهم عن أوضاعهم؟

يكشف تقييم ظروف عيش الشباب وواقع إدماجهم في مسلسل التنمية في العديد من بلدان العالم عن ملاحظة يتقاسمها جميع الفاعلين المعنيين العاملين في قضايا الشباب: ألا وهي وجود شعور بالاستياء وعدم الرضى في صفوف هؤلاء الشباب. ويعد هذا الاستياء في الواقع نتاج العديد من أشكال المعاناة والحرمان والإحباط والعجز والهشاشة والضعف، بسبب البطالة والفقر والوضعية المزرية لخدمات الصحة وأنظمة الحماية الاجتماعية والسكن غير اللائق والفجوة الرقمية والتفاوتات في التعليم والتكوين والولوج إلى الموارد وفرص الارتقاء الاجتماعي، وكلها عوامل تؤدي بالشباب إلى فقدان الثقة في مستقبلهم.

إن هذا الوضع، الذي يفاقم ما يعيشه الشباب من إقصاء ومن صعوبات على المستوى الاجتماعي والثقافي، يدفع بهم عموماً إلى البحث عن بدائل في الأنشطة غير المشروعة وغير النظامية والهجرة واقتصاد الجريمة، مع ما تحبل به هذه العوالم من عنف وتكريس لليأس. وهو ما يغذي ويقوي في أنفسهم أفكارا طوباوية غير عقلانية غالبا ما تمتح من فكر ديني متطرف، كما يغذي لديهم الأيديولوجيات المدمرة، وثقافة الاستسلام والراديكالية وثقافة العنف والرعب، بل وثقافة الموت.

وبالإضافة إلى تأثيرها على ظروف عيشهم اليومية، تدفع حالة الاستياء وعدم الرضى هاته الشباب إلى البحث عن ملاذ أو مرجعية يتشبثون بها، فيجدون أنفسهم أمام وفرة من الخيارات والتوجهات تجعلهم في حالة تجاذب نفسي حقيقية. ويتبين في ضوء تحليل شعور الاستياء وعدم الرضى الذي يعاني منه الشباب أن هذه الملاذات أو المرجعيات تنقسم إلى أربعة اتجاهات رئيسية:

السعي نحو العودة إلى الأصول الثقافية والحضارية والدينية التي يقوم عليها بنيان مجتمعاتهم ومجموعاتهم العرقية، وهو سعي يذكيه نزوع نحو الانطواء الهوياتي ناتج عن أزمة المدرسة وتفاقم الفوارق الاجتماعية والمجالية وأشكال عدم المساواة المبنية على النوع، وكذا سوء تدبير تلك التفاوتات، وكلها عوامل تؤدي إلى تعاظم إحساس لدى هؤلاء الشباب بالتعرض للحيف وامتهان كرامتهم، وكذا تعرضهم للتهميش والإقصاء من المشاركة في حياة مجتمعاتهم؛ اتجاه قائم على الاستسلام الذي يؤدي إلى اليأس، ومن ثم يجعل الشباب عرضة للاستغلال من لدن أفكار طوباوية مدمرة، ترعاها قوى تبحث عن الشرعية الشعبية والسياسية في المجتمع.

والانخراط في توجه كوني متشبع بثقافة حقوق الإنسان، القائمة على قيم الحرية والعدالة والكرامة والحكامة المسؤولة والإنصاف والتضامن؛ وهو خيار أصبح ممكناً بفضل عولمة شبكات التواصل الاجتماعية والانتشار الكبير للإمكانيات التي باتت توفرها الثورة الرقمية الجديدة لشباب العالم؛ وأخيرًا ، اتجاه رابع قائم على سعي الشباب إلى التوفيق بين الديمقراطية والحداثة والدين.

لذلك، فإن الدولة والمؤسسات التي تشرف على تأطير الشباب مطالبة اليوم برصد واستباق هذه الاتجاهات والمسارات والتيارات التي تخترق الأنظمة الاجتماعية، حتى تتمكن من تقديم الأجوبة المناسبة لها. وفي هذا السياق، وبغض النظر عن الانتقادات التي يمكن نوجهها للأحزاب السياسية في مجموع بلدان العالم، فإنها تظل آليات أساسية وبنيات مؤسساتية لا غنى عنها من أجل ضمان تدبير الشأن العام وتوفير فضاء ملائم للنهوض بالمشاركة المواطنة للشباب.

 

ما هو تقييمكم للمشاركة السياسية للشباب؟

لقد أوضحنا في مؤلفين أنجزا أخيرا، أن مشاركة الشباب في الحقل السياسي هي قضية ذات طابع شمولي، ولا يمكن أن تقتصر على الشباب فقط. ذلك أن الانتماء إلى هذه الفئة الاجتماعية لا يحيل على وجود حساسية “سياسية” بعينها. بل إن الأمر يتعلق بفئة اجتماعية غير متجانسة، تعتمل فيها اتجاهات وتوجهات وخيارات متنوعة ومتناقضة. إلا أن ما يضفي الشرعية على الخطابات الموجه للشباب هو الدينامية الخاصة التي تميز هذه الفئة داخل المجتمع.

لذا، ينبغي على الأحزاب السياسية أن تعي بمدى أهمية هذا المعطى وأن توليه الأهمية المستحقة، من خلال القيام بإصلاح هياكلها وطريقة اشتغالها وتعزيز ديمقراطيتها الداخلية، والانفتاح على جميع شرائح المجتمع، والاجتهاد في تقديم عرض سياسي جديد، يتسم بالمصداقية ويواكب انتظارات الشباب وتطلعاتهم وواقعهم الجديد. ومن شأن عرض بهذه الصفات أن ينجح في مصالحة الشباب وباقي فئات المجتمع مع السياسة.

إن هذه الإشكالية تكتسي أهمية بالغة بالنسبة لمستقبل الأحزاب السياسية وكذا بالنسبة لحكامة مجتمعاتنا مستقبلا، وذلك بالنظر لكون هذه المجتمعات تتغير بسرعة هائلة على جميع المستويات الديموغرافية والسوسيولوجية والاقتصادية والسياسية والثقافية والسلوكية. وهي تحولات تؤدي إلى زعزعة المنظومات والبنيات الاجتماعية والفضاءات المؤسساتية التقليدية القائمة وتُغَيِّرُها تغييراً جذرياً، علما أنها منظومات تكون محط انتقادٍ وأحيانا مَحَطَّ رفضٍ من لدن الشباب.

وفي ما يخص النقطة الأخيرة، فيبدو بالنظر للتغيرات المشار إليها، أن الشباب باتوا في طريقهم إلى إنتاج فضاءات جديدة خاصة بهم، متفردة وغير اعتيادية. كما أضحوا يخلقون أماكن عيش جديدة يرون أن بمقدورها تلبية انتظاراتهم وتطلعاتهم واحتياجاتهم. وكما يقول ريمي لوفو، فقد “أصبحت مجتمعاتنا مجتمعات للاستهلاك الجماعي، في حين أن البنيات والمنظومات الاجتماعية والمؤسسات السائدة، التي يفترض أن تؤطر الناس، لا تزال خاضعة لممارسات قديمة قائمة على توافقات تديرها نخب لم تعد مواكبة للواقع الجديد الذي يعيش على إيقاعه العالم، ولا للواقع الجديد للشباب”.

ولعل هذا التفاوت بل الفجوة بين التحولات التي يشهدها المجتمع وبين الأنماط المعتمدة في حكامته، يفسران بجلاء الجذور العميقة للأشكال الجديدة لاحتجاج الشباب وثورتهم على العديد من المؤسسات سواء كانت الأسرة أو المدرسة أو الأحزاب السياسية أو مؤسسات الدولة. كما أنهما يسلطان الضوء على التحولات التي تشهدها القيم والمرجعيات، والتي من المفترض أن تكون تلك المؤسسات الساهرة على إنتاجها وإعادة إنتاجها وترسيخها في صفوف الشباب.

ومن هنا يطرح سؤال جوهري نفسه: من يقوم اليوم بإنتاج القيم؟ وما هي المؤسسات التي تساهم في بناء الهوية المشتركة في مجتمعاتنا وبالتالي هوية الشباب؟ وينبثق عن هذا السؤال سؤال آخر: من يضطلع بمهمة تربية الشباب، بما في ذلك في الشق السياسي؟ هل هي المدرسة، الأسرة، المسجد، الكنيس، الكاتدرائية، المعبد، الشارع، الحزب السياسي، النقابة، ومؤسسات المجتمع المدني؟ أم هي الإنترنت، التلفزة، الفيديو، شبكات التواصل الاجتماعية، أماكن العيش الجديدة المنبثقة عن الثورة الرقمية الجديدة، من قبيل مقاهي الإنترنت والمواقع الإلكترونية والويب بشكل عام؟

في غياب دراسات تجريبية موثوقة علميّاً، سيكون من الصعب جداً تقديم إجابة شافية عن هذه الأسئلة. غير أن ما نلاحظه في هذه المرحلة من التفكير، هو أننا نشهد خلال العشر سنوات الأخيرة ظهور فاعلين جدد يضمون حركات الشباب والنساء والعاطلين، وتنسيقات عالمية ووطنية ومحلية مناهضة لغلاء المعيشة، وتجمعات مهنية جديدة. وقد أرسى هؤلاء الفاعلون الجدد هيكلتهم التنظيمية بناء على أشكال جديدة للتضامن عمادها العلاقات والتفاعلات الشخصية، وعلى أشكال غير اعتيادية في تنظيم وتمثل آليات المشاركة والانخراط في التغيير.

كما أصبحنا نشهد اليوم في جميع أنحاء العالم ظهور دينامية للتنظيم الذاتي للثورات والهَبَّاتْ الشعبية وأحداث الشغب والحركات المطلبية والاحتجاجات. وقد برزت هذه الدينامية بشكل جلي مع “الثورات العربية”، وحركة السترات الصفراء والتحالفات العالمية من أجل حماية المناخ وحركات المطالبة بتعميم الحد الأدنى للحماية الاجتماعية والدخل الأساسي الشامل. ويكشف تطور هؤلاء الفاعلين الجدد وهذه الحركات أننا إزاء ظهور قوى جديدة في مجتمعاتنا، يقودها أساسا الشباب وتواكبها وسائل إعلام مستقلة وعددٌ من الجمعيات والحركات السياسية العاملة في مجال حقوق الإنسان وفي ديناميات مدنية متنوعة، تنحو بشكل متزايد نحو تبني أشكال غير نمطية للفعل والتأثير وتتطور خارج الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الأخرى المنبثقة عن المجتمع المدني وتعمل بشكل موازٍ لها.

وتشير جميع أشكال التعبير المشار إليها، إلى ميلاد آليات حقيقة للرقابة وإقامة التوازن مع السلطات القائمة في مجتمعات تخترقها مطالب من نوع جديد، قوامها التوق إلى المزيد من الحقوق والعدالة والمساواة والإنصاف، وصون الكرامة، والتطلع إلى المزيد من الإنصات والاعتراف، وقبل كل شيء، الحق في المشاركة. كما أنها تبرز بجلاء الأهمية التي يجب أن توليها الدول والمجتمعات لبناء صرح مؤسساتي ينهض بتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين بشكل عام والشباب على وجه الخصوص، وذلك من خلال دسترة هيئات الديمقراطية التشاركية، وهيئات التقنين والتضبيط، وحكامة الاقتصاد والمجتمع. وإن من شأن اعتماد هذه المقاربة المؤسساتية المساهمة في إيجاد حلول مستدامة للتصدي للأشكال الجديدة للعنف في صفوف الشباب.

 

كيف تفسرون ظاهرة العنف لدى الشباب؟

تشهد أوساط الشباب في جميع أنحاء العالم ظهور وتطور أجيال جديدة من العنف، تتخذ أشكالا متعددة، إذ تتأرجح بين تبني موقف الاحتجاج وعدم الثقة بل وحتى المقاطعة إزاء المؤسسات التقليدية التي تشكل وتؤطر الأفراد والجماعات في المجتمع (الأحزاب السياسية والنقابات والأسرة والمقاولات والأجهزة الإيديولوجية للدولة)، وبين الأنشطة الإجرامية وغير المشروعة، والهجرة القسرية، وثقافة الموت بشكليها الأكثر تطرفا : الانتحار والإرهاب .

غير أنه لا يوجد نموذج واحد للشباب العنيف. إذ نجد ضمن الشباب المعنيين بهذه الظاهرة العديد من الفئات:

– شباب متمدرس وغير متمدرس؛

– ذكور وإناث (وإن كانت نسبة الشابات أقل قليلاً)، حيث تتشكل أغلبية الشباب المعنين بهذه الظاهرة من الذكور؛

– شباب منحدرون من أوساط اجتماعية فقيرة، ومن طبقات وسطى وكذا من أسر ميسورة، وإن كان الأمر بنسب مختلفة أيضا؛

-شباب من الوسط القروي والحضري.

وبغض النظر عن هذه المعطيات، فإن عنف هؤلاء الشباب، على اختلافهم، يعزى لجملة من الأسباب المشتركة، نذكر منها على الخصوص:

– وجود علاقة صراع مع المجتمع والمدرسة والأسرة والمؤسسات؛

– صعوبات متزايدة في ما يتعلق بالاندماج الاجتماعي والمهني، والاستفادة من خدمات الإسكان والصحة والتعليم والثقافة والرياضة والترفيه، مما يؤدي إلى تعميق الإقصاء والتهميش والهشاشة والفقر في صفوف الشباب، خاصة الفتيات والشباب بالوسط القروي وشبه الحضري، وكذا شباب كبريات المدن؛

– عدم كفاية، إن لم نقل انعدام، أماكن العيش المناسبة للشباب، مما يذكي لديهم الشعور بالضياع وبأن المجتمع أدار ظهره لهم، فيهيمون في دروب الحياة بدون تأطير ويصيرون عرضة لكل الإغراءات الممكنة، ولشتى أشكال الاستغلال من لدن قوى مختلفة تبحث عن شرعية شعبية وسياسية؛

– عزل الشباب وإقصائهم، الأمر الذي يقوض لديهم أي شعور بالانتماء إلى المجتمع، ويولد في أنفسهم الإحساس بالتعرض للحيف وإهدار كرامتهم؛

– غياب آفاق الارتقاء الاجتماعي وتحسين الوضع الشخصي، لا سيما عبر إيجاد فرصة عمل لائق وتكوين أسرة، والحصول على سكن مناسب، أي بكل بساطة : العيش بكرامة.

ويؤدي هذا الوضع إلى تنامي شعور دائم لدى الشباب باليأس وانعدام الثقة في المجتمع والدولة بجميع مكوناتها ورموزها. كما أنه يجعل من الشباب مرشحين محتملين للانخراط في الثورات، والاحتجاجات، والانتفاضات، وبالتالي مستعدين لأن يلقوا بأنفسهم في مختلف أشكال العنف وأكثرها تطرفًا، والتي تكون نتيجتها في نهاية المطاف ترسخ ثقافة الرعب والكراهية، بل والموت في أنفسهم.

ويزداد هذا الواقع تعقدا في جميع مناطق العالم التي أنزل فيها الدين منزلة النظام السياسي، كما يتفاقم في تلك التي توالت عليها أشكال التدخل الأجنبي والحروب فكانت نتيجتها المنطقية إذكاء الشعور لدى شباب هذه المناطق بالظلم والتمييز في حق مجتمعاتهم وحضاراتهم وثقافاتهم ودياناتهم.

وتأتي كل هذه التطورات في وقت من مسار تطور المجتمعات البشرية صارت فيه الثورة الرقمية تتيح للشباب في جميع أنحاء العالم فرصا هائلة لإسماع أصواتهم والعمل بشكل جماعي في إطار شبكات تعاونية من أجل الدفاع عن حقهم في الحياة الكريمة.

 

ماهي تأثيرات الثورة الرقمية على الشباب؟

تشكل الثورة الرقمية عنوانا لظهور حقبة جديدة في تاريخ البشرية وبروز عالم جديد. ويتجلى هذا العهد الجديد الذي ينبأ بقيام مجتمع ما بعد المرحلة الصناعية، في ظهور وتطور أنماط جديدة للعمل والإنتاج والتبادل والتفكير، وهي أنماط مرتكزة على أنشطة اقتصادية جديدة، وأشكال جديدة لتعبئة الشغل، ومهن جديدة متأتية من التكنولوجيات الجديدة، وعلاقات جديدة مع الزمان والمكان، وأخيرا أشكال جديدة للعلاقات الاجتماعية.

وتعد التكنولوجيا الرقمية أداة ووسيلة تمكن من التداول الآني لكم هائل من المعلومات المتنوعة للغاية بين عدد كبير من الأشخاص. وتتسم هذه التكنولوجيا بسهولة استخدامها وبفعاليتها وبتكلفتها المعقولة. فهي تُيَسِّرُ التبادل، وتسمح بتحقيق قفزات نوعية في المجال التكنولوجي وفي ميدان التدبير، كما تمكن من دمقرطة الوصول إلى المعلومات وتساهم في تعزيز النضالات المواطنة المناهضة لجميع أشكال الانحراف في مجالات الحكامة وإدارة التغيير. وهي بهذا المعنى، تعزز ممارسات الديمقراطية التشاركية المباشرة والقائمة على القرب، وإن كانت افتراضية.

والأكثر من ذلك، فإن هذه الثورة الرقمية أحدثت ثورة في اللغة والتواصل، وتجاوزت مفاهيم من قبيل الزمن والحدود والمواطنة. وكما أن مستجدات مثل الهاتف المحمول والأنترنت والتلفزة المتصلة بالويب، والكتب والصحف الإلكترونية والأنماط الجديدة لإنتاج السلع والخدمات الثقافية ساهمت في ظهور أماكن وفضاءات عيش جديدة، فقد كان لها تأثير على سلوك الأفراد والجماعات والمجتمعات قاطبة، وهو تأثير طال تبعا لذلك الروابط الاجتماعية وقيم العيش المشترك وبالتالي طبيعة التماسك الاجتماعي.

ولكل هذه الأسباب مجتمعة، يمكننا الجزم بأن الثورة الرقمية توجد في صميم تَشَكُّلِ عالم جديد للشباب.

غير أن هذه الثورة ليست عامة ولا تشمل جميع مناطق العالم بنفس الطريقة ولا بنفس التأثير.

 

لماذا هذه الثورة ليست عامة ولا تشمل جميع مناطق العالم بنفس الطريقة ولا بنفس التأثير؟

هناك العديد من الأسباب لهذا الأمر، منها أنه تتطور أدوات الثورة الرقمية في البلدان التي تولي فيها الدولة اهتماماً بالثقافة. وهو اهتمام يتجسد من خلال إرساء سياسة عمومية ملائمة، وعبر توفير موارد مالية مهمة. مما ينعكس إيجابا على حجم النفقات المخصصة للنهوض بالثقافة والتكنولوجيات الرقمية، وكذا على وضعية اقتصاد الثقافة والصناعات الثقافية؛ إن تطور التكنولوجيا الرقمية رهين بمستوى تعليم الساكنة. إذ كلما كانت نسبة التمدرس منخفضة ونسبة الأمية مرتفعة، كلما كانت تطور التكنولوجيا الرقمية متدنيا؛ التكنولوجيا الرقمية مرتبطة ارتباطا وثيقا بدرجة تطور الديمقراطية والحريات في البلد؛ كما أنها رهينة بوضعية تطور التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال (NTIC)، ودرجة تغطيتها لمجموع التراب الوطني ومعدل ولوج وارتباط الساكنة بها؛ وهي رهينة أيضاً بدرجة انفتاح البلاد على العالم الخارجي؛ وأخيرا، ثمة محدد غاية في الأهمية، وهو أن تطور وانتشار التكنولوجيا رهين بالقدرة الشرائية للمواطنين.

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى